نحاول في هذا الموضوع تسليط الضوئ على واحة فجيج خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين . فاذا كان الاستعمار قد نجح في فرض سلطته والسياسية والتحكمية على الدولة والمجتمع المغربيين منذ مطلع القرن العشريين ,فإن الأذرع العلمية لهذا الاستعمار قد نجحت في تفكيك البنية المعيشية والأنساق الثقافية المتوارثة ,ويمكن القول ان الفضل يعود لجهود مؤسسات استعمارية رائدة مثل "البعثة العلمية الفرنسية بالمغرب " و "الشعبة السوسيولوجية للشؤون الاهلية "الى جانب منشورات متخصصة مثل الأرشيفات المغربية ,ومجلة العالم الإسلامي ,وهسبريس وتمودا ,ونشرة افريقيا الفرنسية ,في طرح الاسئلة الحقيقية المغيبة في جهود تفكيك الواقع المغربي وفهم خباياه وكتابة تاريخه المنسي ,واعادة الاعتبار ل "الهامش " الذي في موضوعنا يتمثل في واحة فجيج.
فأين تقع واحة فجيج جغرافيا ؟ وماهي خصائصها الطبيعية و الاقتصادية وكذا تنظيماتها الاجتماعية؟ وكيف كانت علاقتها بالسلطة المركزية وكذا الفرنسية ابان الفترة المدروسة؟
اقليم فجيج
يقع اليوم اقليم فجيج في اقصى جنوب جهة الشرق في المغرب ,يحده من الشرق الحدود الجزائرية ومن الجنوب اقليم الرشيدية,وشمالا جرادة وتاوريرت وجرسيف ,وغربا اقليمي بولمان وميدلت.
تقدر مساحة الاقليم ب:55990كلم مربع ,وهو ما يمثل 62,1 في المئة من مساحة جهة الشرق,و7,9 من مساحة المغرب.
حسب الاحصاء العام للسكان والسكنى 2014 بلغ عدد السكان القانونيين لاقليم فجيج 138325 نسمة ,يتميز مناخ الاقليم بطقس حار وجاف خلال فصلي الربيع والصيف ,وخريف وشتاء باردين وقليلي التساقطات.
يعرف الاقليم تنوع في التضاريس ,حيث نجد في الشمال نسبة كبيرة من النجود العليا ,وسلاسل جبلية ذات امتداد لجبال الاطلس الكبير,ومنطقة تعرف بمنطقة كير في الجنوب .ويضم الاقليم عدة اودية وجيوب مائية جوفية ,اما المناخ فهو ذو طابع متذبذب وذو خصوصية صحراوية ,شديد البرودة في فصل الشتاء وحرارة مفرطة في فصل الصيف.
يعتمد اقتصاد الاقليم بالاساس على تربية المواشي وذالك بفضل المساحات الواسعة المغطاة بالحلفاء التي توفر لما الغداء الاساسي ,ثم يتوفر الاقليم على معادن ثم استغلالها في القرن العشرين ,والتي تمثل الحديد والبارتين ,والزنك ...
التقسيم الاداري
احدث اقليم فجيج بموجب الظهير الشريف رقم :1,74,08 الصادر بتاريخ 14يناير1974 ويتكون من بلدتين وأربع مراكز حضرية ,واحدى عشرة جماعة قروية ,تحت اشراف دائرتين هما :دائرتي فجيج وبني دجيت .
واحة فجيج خلال القرن التاسع عشر
تمتد واحة فجيج ,ذات المساحة الكبير الواسعة الخضراء من اشجار النخيل في منحدر واسع تحيط به من الجهات الثلاث الجبال الوعرة القاحلة التي تشكل نوعا من حلقات الوصل القريبة من سلسلة جبال الاطلس الصحراوي ,ويعد واد زوزفانة الذي ينبع غير بعيد من شمال فجيج ثم يتجه الى الجنوب نحو الصحراء .تضم فجيج سبعة قصور وهي :الوداغير ,اولاد سليمان ,اولاد المعيز,الحمام الفوقاني ,الحمام التتاني,العبيدات وقصر زناكة الذي يعادل سكانه وحده تقريبا مجموع سكان القصور الاخرى .
في القرن التاسع عشر كان يتكون سكان كل قصر من مجموعات ذات قرابة موسعة وبالاضافة الى الحراطين العمال ووكل السكان المقيمين في فجيج يتكلون الامازيغية وبالاضافة الى ان معظم الراشدين يتكلمون الدارجة المغربية .والوحدة السياسية في التنظيم الاجتماعي هي العشيرة المعروفة بالفلقة او احيانا الفخدة ,كان لقصر زناكة ثمان او تسع عشائر ,والقصور الاخرى لها من ثلاثة عشائر الى خمسة .وتسكن العائلات التي تكون عشيرة واحدة مجتمعة في حي من القصر .ويكون لها احيانا مسجدها الخاص وترسل الممثلين عنها الى مجلس العشيرة او الجماعة.
ليس هنالك قصر يدعي ساكنته انهم ينحدرون من جد واحد باستثناء قصر الوداغير ,فهي تصر على ان نسبها يرجع الى مولاي احمد الودغيري الشريف الادريسي الذي هاجر الى فجيج من فاس في القرن الثالث عشر.
كانت عائلات قليلة من اليهود تعيش في زناكة والوداغير واولاد سليمان وكانوا كلهم من صناع الحلي او التجار ,ولهم احيائهم الخاصة في القصر .
تعتبر فجيج اكثر قصور المنطقة ازدهارا ويعود ازدهارها بالاساس الى وجود المياه باستمرار حيث يتوفر الماء على امتداد السنة وان لم يكن بوفرة دائما حيث تعتمد الساكنة على جريان المياه من عشرين عينا وتلقي الخطارات التي تدعى الفجارات الماء الى السطح في السواقي المفتوحة حتى يصل الى البساتين ,وتعتبر العيون المصدر الاساسي الملموس للمياه مادام معدل تساقط الامطار لايتجاوز سنويا مابين 70 و100 ملمتر ,بينما واد زوزفانة الذي لاتجري مياهه الا جزءا من السنة ويوجد بعيدا عن الواحة مما لايسمح بالسقي منه .
ان حقوق المياه ليست ملكية مشتركة للقصر حتى تقتصم بشكل متناسب مع العائلا المكونة له هي بالاحرى ملكية خاصة مثل الارض يمكن شرائها او بيعها او كرائها او رهنها او مقايضتها تتوفر فجيج عل احد ادق انظمة تنظيم السقي وتسييره في شمال افريقيا .باستعمال المياه بقياس الزمن بدل الحجم ,ووحدة القياس هي الخروبة ,التي تمثل انسياب الماء في البستان او في الصهريج لمدة 45 دقيقة بالظبط ,والملك الذين يستعملون المياه ياخدون نوبتهم او دورهم حسب دورة تكون من 15يوم .وهناك من الناس من يملك اكثر من خروبة واحدة ,وهناك مدبر مختص يدعى الصرايفي او اسرايفي وهو الذي يحفظ اسماء ملاك كل خروبة وفق نظام نوبتهم ويتاكد من احترام التتابع العادل للنوبة ,ويشرف على عمليات بيع وشراء واستبدال الخروبات والتي تتم كل ستة اشهر ,والنظام القانوني لفجيج يقوم على العرف اكثر من الشريعة ,وهو يتضمن مجموعة من القوانين المرتبطة باستعمال الماء وسوء استعماله
وقد كانت احوال الشخص المعاشية في علاقته مع جيرانه تتوقف بلا ادنى خلاف على عدد ما يملك من خروبات وقد كانت مسالة توزيع الماء حاضرة في سائر العلاقات بين الناس والعشائر والقصور .وكان لها تأثير قوي في العلاقات السياسية داخل مجتمع الواحة فالوحدة السياسية لكل من القصور السبعة كانت تنشا عن الحاجة الى الدفاع عن العين الواحدة او اكثر وعن شبكة السواقي التي ترتبط بها ,وقد كان يشترك اكثر من قصر واحد في اكبر عينين من عيون الواحة ,وكانت هذه الوضعية تنتج مشكل الدفاع عن السواقي التي توج تحت الارض لقد كانت القصور السبعة في حالة من الداء الخفي او الواضح باستمرار فيما بينها
التجارة عبر الصحراء
كانت معظم الطرق التجارية تمر عبر المراكز التجارية الموجودة في الطرف الشمالي للصحراء وكانت مواد هذه الاسواق تنقل في الغالب من قافلة الى اخرى قبل ان تتجه الى الساحل الشمالي او الى السودان ,وفي الجنوب الشرقي كانت هذه التجارة عبر الصحراء تمر عبر فجيج .وقد كانت فجيج مستودع هام للتجارة الصحراوية الى ان احتلت فرنسا الجزائر ,وخلال النصف الاول من القرن التاسع عشر كانت القوافل القادمة من توات او القادمة مالسودان تحمل عدة مواد الى فجيج عبر طريق وادي زوزفانة الساورة المشبعة بالمياه ,ومن فجيج تتفرع الطرق المؤدية الى الطريق الشمالي ,تذهب احداها الى فاس عبر دبدو وتازة ,وتذهب اخرى مباشرة الى الشمال عبر راس العين الى وجدة ,وتصل ثالثة الى تلسان واخرى من الل الجزائري عن طريق عين الصفراء ,ومنذاربعينيات القرن التاسع عشر تقلص دور فجيج في نظام التجارة الصحراوية بسرعة ومنذ احتلال فرنسا للتل والاطراف الشمالية للصحراء ابتدائا من احتلال مركز الغواط سن 1852 تحول معظم التجارة الصحراوية اما الى المغرب او تونس او ليبيا
علاقة المخزن بواحة فجيج
اندرجت فجيج ضمن التوسع الفرنسي نظرا لموقعها قرب جبال القصور. ففي فبراير 1882 تابعت فرقة عسكرية من عين الصفراء أتباع بوعمامة وجماعات من المغيرين من العمور إلى الجبال القريبة جدا من فجيج، مما جعلها تدخل في مناوشات محدودة مع بعض سكانها. ومنذ ذلك الوقت، وجد الجيش الفرنسي ما يبرر نظرته إلى فجيج كمنطقة تحتشد فيها عناصر المقاومة، وبدأ يدعو إلى الهجوم العسكري عليها، وإن كانت معاهدة لالة مغنية تعترف بالواحة كارض مغربية. ويعترف المخزن، من جهة أخرى، بأن مصداقية مطالبه في الجنوب الشرقي، بالمعاهدة أو بدونها، لايمكن أن تثبت أمام الرأي الدولي ما لم يكن تمثيل السلطة الشريفة قائمة في فجيج، ثاني مرکز سكاني في المنطقة.
1-فجيج و المخزن منذ المولى اسماعيل
كانت قصور فجيج تعترف دائما بسيادة الحكام العلويين، ولكنها لم تخضع لسلطتهم إلا نادرا . أي، لم تجبر على دفع الضرائب للمخزن، أو المساهمة بأفرادها في الجيش. فقد كان السلطان مولاي إسماعيل وهو السلطان العلوي الذي نجح في حكم جنوب الأطلس، يحتفظ بحصن من العبيد في فجيج بين 1679 و1727. وأرسل السلطان مولاي سليمان في 1806 حملة إلى فجيج، ولكن هذا التدخل كان عابرا فقط . وفي سنة 1867 عين السلطان سيدي محمد عاملا لفجيج باسم خليفة قائد. ولم يلبث الموظف المعين في فجيج أن اكتشف أن السكان لايحتاجون إليه إلا نادرا، ثم ذهب ليشارك في ثورة أولاد سيدي الشيخ في الجزائر .في سنة 1881، تغير فجاة موقف اللامبالاة للحكومة المركزية الذي دام طويلا، لما قرر مولاي الحسن تعيين ممثل السلطان في الواحة. فقد وصل الممثلان الأولان للمخزن من وجدة في ماي 1882. وكان أحدهما، هو الحاج أحمد بن رابح، يحمل لقب خليفة عامل وجدة. وبعد بقائهما في فجيج لعدة أيام فقط، سافر الرجلان معا إلى عين الصفراء لتقديم أنفسهما إلى القائد الفرنسي، وطالبا بربط العلاقات السلمية والتجارية عبر الحدود.. وأعطيا الإذن للجيوش الفرنسية لترابط على عتبة أسوار فجيج، ودعوا الضباط والتجار لزيارة القصور . وقدموا خطة للفصل في المنازعات على طول الحدود، تقضي بأن الجزائريين يستطيعون عرض دعاويهم أمام قاضي فجيج، ويستطيع المغاربة الذهاب إلى القاضي الجزائري .
بقي الخليفة وأصحابه في فجيج إلى غشت فقط، ثم عاد إلى وجدة. وظهرت البعثة الموالية في شتنبر 1884. وقد قاد البعثة هذه المرة مولاي عرفة، أخ السلطان، وعامل وجدة، للإشراف على تنصيب الخليفة الجديد، محمد بن مبارك، كممثل دائم للمخزن . والتقى هؤلاء الموظفون أيضا بالسلطات الفرنسية في إيش (في منتصف الطريق تقريبا بين فجيج وعين الصفراء )، ولكنهم لم يقدموا أي اقتراحات جديدة، وطالبوا بأن يبتعد الأوروبيون عن فجيج في ذلك الوقت .
وبعد رجوع محمد بن مبارك من فجيج إلى وجدة، اكتشف بسرعة أن سكان فجيج لم يكونوا مهتمين بأن يخضعوا لحكم موظفي المخزن الأجانب أكثر من أن يحكموا بالجيش الفرنسي، نظريا، لم تكن للخليفة سلطة لجمع الضرائب باسم السلطان، وفرض السلم والأمن في الواحة، وتمثيل مصالح المخزن في المنطقة. وحتى إذا كان سكان القصور يضطرون إلى المساهمة في خزينة الدولة في مناسبات قليلة، فإنهم لم يعرفوا في الماضي قط حكما موسعا . للواحة من أي نوع، وإن عرفوا من إدارة ضعيفة من «الشمال » . ولذلك كانوا مرتابين من نوايا المخزن. لكن المخزن لم يكن لديه مخططات واضحة لفرض الضرائب على فجيج، أو للتدخل في الشؤون الداخلية للقصور . ولما كانت الحكومة معنية، فإن التزامات الخليفة كانت تقتصر على الإخبار عن النشاط العسكري الفرنسي، والتحدث باسم السلطان في مشاكل الحدود المحلية، ولتشكل بالأساس، رمزا للسلطة الشريفة بالمنطقة.
أظهر الفرنسيون بسرعة استعدادهم للتعامل مع ممثلي السلطان المحليين. وفي صيف 1885 احتلت فرق عسكرية من عين الصفراء جنين بورزگ، الذي يقع في السفوح الجنوبية للجبال على بعد حوالي 64 كلم شمال شرق فجيج. وبدأوا فورا في بناء حصن، لأن وزارة الخارجية الفرنسية قد توصلت إلى تفاهم مع المخزن على أساس أنهم كانوا في حاجة إليه لحماية عين الصفراء والعمور من الأطراف المغيرة من جبل بني سمير. ومع ذلك، فقد احتج كثير من الناس في فجيج على الخليفة بأن بوزرگ يقع في الأرض المغربية . وأن بعضهم له أملاك هناك. وترتب عن ذلك، أن بعث الخليفة بالأخبار إلى مولاي الحسن، الذي طلب من الفرنسيين ألا يبنوا الحصن حتى يتم حل المسألة الترابية. ولما كانت وزارة الخارجية حساسة جدا لمسألة الحدود، فقد أمرت جنودها بوقف العمل والانسحاب . وفي نوفمبر 1885 التقى عامل وجدة، والخليفة، وعدد من الأعيان من فجيج مع القائد العسكري الفرنسي في عين الصفراء. وبعد مناقشات كثيرة للمسألة على أساس النقاط الواردة في اتفاقية لالة مغنية، وافقت البعثة المغربية بأن جنين بورنگ يوجد في التراب الجزائري. وبعد أكثر من سنة أبلغ السلطان الحكومة الفرنسية بنفس النتيجة. وفي دجنبر 1888 كان الحصن قد تم بناؤه . وكان من نتائج هذه المسألة، أن تقدم الفرنسيون إلى السلسلة الجبلية القريبة من فجيج، ولكنهم قبلوا، بحكم هذه السابقة في التعامل مع الخليفة، بأن تكون الواحة للسلطة المخزنية على طول الحدود الجنوبية.
تولی ثمانية خلفاء في فجيج ما بين 1884 و 1892. وكانوا يتلقون الأوامر نظريا من عامل وجدة، ولكن بعضهم كان يتراسل مباشرة مع السلطان. وقد أعطى الاتفاق الفرنسي - المغربي لسنة 1902 لفجيج عامله الخاص. وأقام خمسة منهم في فجيج بين 1902. كان لخلفاء وعمال فجيج مهام متنوعة . فبعضهم اشتغلوا كضباط صغار في الجيش أو كمسؤولين في إدارة المخزن قبل وصولهم إلى الجنوب الشرقي . ولم يكن أحد منهم من أبناء فجيج . وكانت تعكس النسبة العالية من تقلب الحكام في ولايتهم ممارسة قديمة اتبعها السلاطين في نقل الموظفين الإقليميين من منصب لآخر لفترات محددة ، حتى يمنعوهممن تكوين قاعدة لسلطة مستقلة في أي مكان في البلاد.
2- علاقة العمال بفجيج
كان معظم العمال منشغلين بمسألة تأمين سلامتهم. فمعظم سكان فجيج ينظرون إليهم كأدوات لتدخل المخزن وفرض الضرائب. وإذا كانت لديهم سلطة فرض ضريبة النخيل، فلم تكن لديهم وسائل للمطالبة بها، بل ولا حتى الحصول على مدخول يضمن معيشتهم الخاصة. ولم يكن يتوفر قبل 1902 على ما يكفي من المخازنية ورجال الدرك لدعم سلطته. كان من المفروض أن تساهم كل القصور بكمية من التمر والشعير لمساعدة العامل، ولكنها كانت بخيلة معه .وقد حاول بعض العمال، علىالأقل، فرض ضريبة واحدة من هذا النوع أو ذاك، ولكن بدون نتيجة تذكر. وفي سنة 1888 بدأ الخليفة عمر السوسي بجمع ضريبة على تجارة المواد التي تدخل إلى الواحة أو تخرج منها . وكان يقوم بذلك في بعض الحدود، لأن السلطان كان قد أمره بدفع تعويض للفرنسيين بسبب توقيفه وحبسه لثلاثة من المبعوثين من رجالهم المسلمين، وبعث السوسي برسالة إلى محمد الطريس، نائب السلطان بطنجة، يشتكي فيها قائلا: «أنا هنا في هذا المركز بدون موارد، ولا أحصل على شيء، ومن أين لي أن أجمع 980 فرنكا لأداء التعويض الذي طولبت بدفعه؟ » وفي مثل هذه الحالة احتج سكان الوداغير بقوة على الخليفة، لأن معظم أنشطة السوق كانت قبالة قصرهم. وبعد بضعة شهور أقال السلطان عمر السوسي، لا لكونه حاول الحصول على مدخول، بل لأن الفرنسيين اشتكوا من عداونيته لهم ورفضه تشجيع العمور على البقاء في التراب الجزائري . وعلى كل حال، فلم يحاول أحد من الذين خلفوا السوسي فرض ضريبة السوق مرة أخرى حتى سنة 1909، ولو أنهم وجدوا أنفسهم في نفس الوضعية من الإعسار وقلة ذات اليد..
كان العامل، في الحياة السياسية لفجيج، مصدر إزعاج أكثر مما كان مصدر تهديد. ومن الغريب أن السكان لم تصل بهم استهانتهم به إلى قتله أو طرده. لم يكن الفرنسيون قبل 1903 يرغبون في تأمين سلامته، وحتى الشرفاء الوداغير لم يستطيعوا الحيلولة دون مهاجمته إلا بصعوبة . إن هذا التسامح مع العامل يعبر في الواقع عن طبيعة العلاقة السياسية الموجودة بين فجيج والمخزن المركزي. فقد كان السكان يعترفون بالسلطان عبر الجنوب الشرقي كإمام، وأمير المؤمنين. هو صاحب البركة التي تجلب الخير والبركة للسكان. وما دام يدافع عن الإسلام ضد التهديدات الخارجية، فإنه شخص مقدس. وإذا كان المخزن المركزي غير عادل، ويقوم بالنهب والسلب، أو أنه شديد البطش، فمسؤولية كل ذلك تقع على أعوان السلطان . ومع ذلك، فقد قبل سكان فجيج العامل كممثل شرعي للسلطان . ولم يقبلوه كأجنبي جاء لفرض الضرائب والتدخل في الشؤون المحلية. وقد عبر السكان في مناسبات عديدة عن عدم رضاهم عنه، ولكنهم كانوا يطلبون من السلطان أن ينقله لا أن يطرده . ففي سنة 1884، مثلاسافرت الوفود من كل القصور إلى فاس لتلتمس من السلطان أن يترك الجماعات السبع تتحكم في شؤونها الداخلية. وذهبت بعثة تجارية إلى الشمال في 1886 لتطلب نقل عمر السوسي. وفي سنة 1888 طلب ممثلو زناگه أن يعين عليهم قائدهم الخاص.
3- علاقة فجيج بالسلطان
لم تكن الشكاوى من العامل هي السبب الوحيد، طبعا، الذي يبرر التنقل والتراسل بين فجيج والعاصمة. فبعض السلاطين العلويين قد أهملوا فجيج لفترات طويلة من الزمن، ولكن السكان كانوا يعرفون ما تقدمه السلطة المعنوية وهيبة السلطان من سند في حل المشاكل المحلية. كان رؤساء القضاة في فاس و تافيلالت، المعينون معا من طرف السلطان ، بمثابة محاكم الاستئناف فيما يخص النزاعات التي لم يستطع القضاة المحليون حلها. ومن المحتمل جدا أن تكون المراسلات بين المخزن وفجيج كثيفة خلال القرن التاسع عشر، وإن كان حجمها قد ازداد بعد وصول الفرنسيين إلى عين الصفراء. ويجب أن يفهم تبادل القضايا والشكاوى التي تأتي من مناطق عبر الأطلس مقابل طلب النصح والوعظ والحكم من السلطان، إلى حد ما، على أنه تعبير عن مدى توسع الأمبراطورية الشريفة وحدودها في القرن التاسع عشر. وقد لاحظ أوبن Aubin في تناوله اللبيروقراطية المخزنية أن :هذه المراسلة والمسؤولية المرتبطة بالقبائل هي في أيدي البيروقراطية المخزنية التي تكون مختلف البنيقات الوزارية. فليس هناك أية قبيلة، حتى التي توجد في معظم الأطراف البعيدة من بلاد السيبة، لاتتواصل مع المخزن. وإذا كانت عازمة على تخليص نفسها من سلطة المخزن، فإنها مع ذلك، كانت تحاول أن تحافظ على بعض الارتباط معه، ولاتقطع نفسها نهائيا عن تلك السلطة الإسلامية التي تساعد في نظر الكفار الأجانب، على وحدة الأمة.
الاحتلال الفرنسي لفجيج
1-أسباب الهجوم الفرنسي:
لم يهتم الفرنسيون كثيرا بأسرار الصحراء خلال الخمس عشرة سنة الأولى لحكمهم في الجزائر، إلا أن في بداية خمسينيات القرن 19 تحت حكم نابوليون الثالث بدأ الحديث عن تطوير التجارة البرية بين الجزائر وغرب إفريقيا، بل توحيد الجزائر مع مستعمرة السنيغال، وقد قام راندون Randon (1851-1859) الحاكم بالتوسع في الأطلس الصحراوي في وسط وغرب الجزائر، وكما أراد اجتذاب التجارة الصحراوية للمستعمرة. وكانت بعض البعثات تذهب من جريفيل إلى نواحي فيجيج لجمع المعلومات الجغرافية والعلمية. وفي سنة 1860، قاد الضابطان الفرنسيان كولونيو Colonieu وبورين Burin، حملة عسكرية محدودة إلى ممر زوزفانة-السورة إلى توات لإقامة علاقات تجارية إلا أنهم لم ينجحوا في ذلك.
وكانت القبائل بجنوب شرق المغرب لا يتحملون تواجد الفرنسيين بالجزائر وكان هذا بسبب الحدود التي أقيمت في معاهدة للا مغنية وكذا بعض الحملات العسكرية التي كان يقوم بها الفرنسيين بهته المناطق والتي كانت دائما تتعرض لهجمات عدائية من طرف القبائل الساكنة لهذه المناطق إلا أن المنطقة عرفت جمودا إلى سنة 1876 حيث بدأت البوادر الأولى لقيام سكة حديدية تربط بين الجزائر والسودان الغربي وقام سنة 1879 شارل دو فريسيسنيه إلى إرسال ثلاث بعثات إلى الصحراء لمعرفة الطرق الممكنة لبناء السكك الحديدية إلا أنهم لم يكملوا الحملة بعد وصولهم إلى جبال القصور تخوفا من معارضة القبائل المغربية بالمنطقة. كما أن أمر العقيد فلاتير بقيادة حملة إلى الطريق نحو السودان إلا أنه قتل هو وبعثته من طرف الطوارق، قرب عين صالح في الصحراء الوسطى في فبراير 1881. وهذا ما أقنع الحكومة الفرنسية لاحتلال الصحراء و هذا يأتي ضرورة أولية قبل بناء السكة الحديدية الصحراوية« le Transsaharien »،وقد كانت التورة التي قامت في الوسط الوهراني و التي قام بها الشيخ بوعمامة ربيع وصيف سنة1881 والذي كان قاطنا بفيكيك، والتي لم تتمكن فرنسا في بادئ الأمر من صده هو ورجاله إلا أنه بعد توغله في أراضي العدو تمكنت فرنسا من هزيمتهم وطردهم إلى جبال الأطلس والأراضي المغربية، إلا أن بوعمامة بقي في منطقة فيجيج مع مجموعة من مرافقيه وهذا ما أدى فرنسا لبناء حصن سنة 1881 والذي كان في عين الصفراء قريبا من السفوح الشمالية لجبال القصور. وبعد ذلك طاردت القوات الفرنسية بو عمامة إلى الجنوب بعيدا حتى وادي زوزفانة، وأقامت فرنسا حصنا اخر في جفين بورزك في الجهة الجنوبية من الجبال، في موقع لا يبعد إلا مسيرة يوم واحد عن فيجيج وهذا ما أدى إلى المواجهة بينهم وبين أهالي المنطقة فيما بعد. وكانت ثورة بوعمامة ومكوثه مدة طويلة بفيجيج من المسائل التي ستأخذ منها فرنسا مشروعيتها للتوغل بالأراضي المغربية وهذا تحت رداء القضاء والقبط على القبائل الثائرة المختبئة بالأراضي المغربية. وكان هذا أيضا لسبب عدم توضيح الحدود في اتفاقية لالة مغنية جنوب تنية الساسي وكذلك كانت تعتبر الاتفاقية بأن فيجيج ومناطق أخرا مناطق مغربية تحت الرعاية الفرنسية.
ومن هنا بدأ الجيش الفرنسي بالمنطقة بالضغط على الحكومة الفرنسية لتتركه ليخضع منطقة فيجيج حيث كانوا يشتكون من القبائل التي تأتي من المنطقة وتهجم عليهم وعلى مواردهم، إلا أن الحكومة الفرنسية لم تقبل وأرادت احترام معاهدة 1845 خاصة وأن بريطانيا والدول الأوربية الأخرى تراقب المنطقة وبقيت الأمور على حالها إلى غاية 1903.
2-سقوط فجيج:
حمت معاهدة 1845 منطقة فيجيج من السقوط المباشر تحت أيدي الفرنسيين رغم وجود حصنين بجنب الواحة مما مكن الأهالي بالقيام بمقاومة وجهاد محدودين ضد الفرنسيين دون تدخل كبير للجيش الفرنسي بالمنطقة وأهاليها، وكان المخزن المغربي يلعب دورا مهما في هذا الصدد حيث كان متسترا على القبائل المقاومة وكذا متعاونا مع فرنسا وبذلك يضمن أمان نسبي لبعض القبائل ولا يغضب الحكومة الفرنسية حتى لا تهاجمه. وفي سنة 1901 أصبح بروطوكول نفس السنة يلزم الحكومة الفرنسية المخزن المغربي على التعاون والمساعدة المتبادلة في الحفاظ على الأمن وتطور التجارة على طول الحدود غير المعينة. وقد عين مولاي عبد العزيز محمد الركراكي، الموظف المخزني الرسمي وأرسل كمبعوث خاص في فيجيج وعاملا عليها وكذا متحدثا رسميا بين سكان المنطقة وفرنسا.
إلا أن العديد من سكان القصور كانوا غير راضين خاصة مع احتلال فرنسا للمناطق القريبة لفيجيج كتوات ووادي زوزفانة إلا أن السكان قاموا بسياسة حسن الجوار التي أمر بها المخزن. إلا أن زناكة كانوا أهم العارضين لهذا البروتوكول، خاصة وكان هؤلاء أكبر قصر بالواحة وكانت معارضتهم سببا لبناء فرنسا مركز عسكري في بني ونيف جنوب الواحة مباشرة وكذا مد السكك الحديدية لما كان العديد من أهل زناكة يملكون العديد من بساتين النخيل بالمنطقة، وهذا ما أدى ازدياد هجوم قبيلة زناكة على القوافل الفرنسية و كذا الموظفين الرسميين خلال 1902 وأوائل 1903 وهذا ما أدى جونار الذي سيصبح حاكما عاما ربيع 1903 و الذي سيطالب وزارة الخارجية بالسماح له للقيام بهجوم مضاد على ثلاث نقاط طول الحدود: قصف زناكة، وإرسال فرق استكشافية إلى بشار و إلى جبل بني سمير، وكانت الخارجية الفرنسية قد قبلت هذا الأمر دون قبولها احتلال الجيش لفيجيج و لو بصورة مؤقتة، وفي 8 يونيو من نفس السنة قام الفرنسيون بنصب أربع مدافع على سفحين جبليين جنوب الواحة وقاموا بقصف قصر زناكة لخمس ساعات و لم تمس القصور الست الأخرى. وهذا ما أدى إلى استسلام أهالي فيجيج واندثار سلطة المخزن المغربي بالمنطقة بعد أن أصبح الفرنسيون يتفاوضون مباشرة مع الأهالي، وكان الأهالي أصبحوا يغيرون من تصرفاتهم خاصة بعد أن تخلى عليهم السلطان ولم يحرك ساكنا بعد قصف قصر زناكة مما أدى المنطقة تابعة بشكل تام لفرنسا. مع ان فرنسا أرسلة مرسول للسلطان عبرت من خلاله عن احترامها لسلطة السلطان بالمنطقة إلا ان المقيم العام ليوطي اعتبر هذه المنطقة تحت الحماية الفرنسية مهما أنه ترك المخزن من وضع حاميته التي كانت عبارة عن 102 رجلا من المراهقين والشيوخ وكان ليوطي دائم السخر من هذه الحامية حيث كان ينعتها "بمجموعة من الأشقياء المجندين من أجل تنشيط سهرة في مسرح ريفي رديء".
وهكذا كانت فيجيج أول أرض مغربية احتلتها فرنسا قبل وجدة والدار البيضاء للاستيلاء على المغرب. وإذا كان سكان فيجيج قد أصبحوا رعايا فرنسيين (بشكل غير رسمي) بعد القصف، فإنهم قد وجدوا أنفسهم منذ ذلك الوقت يتوارون شيئا فشيئا خلف خطوط الغزو وينعزلون في النهاية عن المقاومة بالمغرب.