يعتبر تاريخ اليهود في المغرب موضوعا لقي اهتماما كبيرا من طرف الباحثين. فقد کان اليهود بالمغرب يتمتعون بوضع خاص داخل المجتمع. فعلى الرغم من انصهار اليهود المغاربة في النسيج الاقتصادي العام إلا أنهم احتفظوا في المجالين الديني والإداري بدرجة کبيرة من الحرية. فمقابل الجزية التي يؤديها اليهود المغاربة لبيت المال کان هؤلاء يستفيدون من حماية المخزن بموجب وضعية الذمة التي تحکم العلاقات بين السلطان ورعاياه من غير المسلمين. وإذا کان جل اليهود المغاربة يسکنون المدن حيث يتعاطون التجارة والحرف المختلفة فإن بعض المجموعات ظلت تعيش في مناطق جبلية أو صحراوية نائية کما کان الحال بالنسبة ليهود سوس ودرعة وتافيلالت وبعض جهات الأطلس الشرقي . أما عددهم الإجمالي فقد قدر في سنة 1806 بحوالي 100.000 نسمة .
على الرغم من هيمنة التجارة الصغيرة والحرف على النشاط الاقتصادي لهذه المجموعات فإن عددا من اليهود تمکنوا خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر من أن يصبحوا من کبار التجار المستقرين في المراسي والمستفيدين من الانفتاح التجاري على أوربا. وإذا کانت تجارة القوافل إلى المشرق أو إلى بلاد السودان قد بقيت في يد التجار المسلمين بشکل أساسي فإن هذا لم يمنع التجار اليهود من الاستفادة من هذه التجارة عبر شرکاء أو وسطاء مسلمين کما کان الشأن بالنسبة للتجارة الصحراوية مثلا . کما لعب التجار اليهود دورا هاما في التجارة البحرية خاصة عبر خدمتهم للسلطان الذي کان يسمح لهم باستثمار أموال الدولة في تجارة الوسق والاستيراد على الخصوص. وربما کان هؤلاء التجار اليهود أکثر الفئات المغربية استفادة من سياسة الانفتاح التجاري التي دشنها السلطان سيدي محمد بن عبد الله خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر. ونتيجة لهذه السياسة، التي کان من أبرز سماتها فتح مرسى الصويرة للتجارة الخارجية، هاجر العديد من التجار اليهود من مراکش وسوس للاستقرار بهذا المرسى. کما أن سيدي محمد بن عبد الله أنعم على البعض منهم باحتکارات تهم تصدير بعض المواد ، واستعملهم في مهمات سياسية بالدول الأوربية .
اليهود المغاربة في عهد المولى اليزيد
لکن اليهود عاشوا حقبة عصيبة في ظل حکم المولى اليــــزيد ) 1790 – 1792 ( الذي سمح بنهب ملاح تطوان وانتقم من بعض التجار اليهود الذين کانوا قد استفادوا من سياسة والده الاقتصادية. والواقع أن اليهود لم يکونوا الوحيدين الذين عانوا من قسوة اليزيد. فعندما نتتبع أحداث حکمه القصير من خلال مؤرخ معاصر کالضعيف نرى بوضوح أن ضحايا قسوته کانوا من اليهود والمسلمين على السواء، وأن المعيار الذي اتخذه في سلوکه هو الانتقام من رموز العهد السابق إذ حاول عکس سياسة والده في کل الميادين .
اليهود المغاربة في عهد المولى سليمان
لکن وصول المولى سليمان إلى الحکم في سنة 1792 استقبل بارتياح کبير من طرف اليهود المغاربة . وقد اتبع هذا السلطان سياسة والده في تعامله مع التجار اليهود فعهد إلى بعض تجار الصويرة من أسرتي ابن مقنين وکيدالة مثلا بأموال هامة لاستثمارها في التجارة الخارجية. وقد ذهب التجار الأوربيون المستقرون بالصويرة إلى حد اتهام المولى سليمان بتفضيل التجار اليهود وتمتيعهم باحتکارات في مجال التجارة الخارجية أضرت بمصالحهم . والواقع أن رجوع جل التجار الأوربيين إلى بلدانهم إثر وباء 1800-1799 ترک المجال للتجار اليهود للهيمنة على حيز کبير من تجارة التصدير والاستيراد؛ کما أن سياسة المولى سليمان الحمائية في مجال التصدير أضرت بالتجار الأوربيين المهتمين أساسا بتسويق المنتوجات المغربية أکثر مما أضرت بغيرهم من التجار .
لکن العلاقات بين المسلمين واليهود في عهد المولى سليمان لم تکن دائما على أحسن حال. فسياسة الانفتاح التجاري التي انتهجها سيدي محمد بن عبد الله خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر سمحت لفئة من التجار اليهود بتجميع ثروات هامة واکتساب مواقع تأثير حتى داخل الجهاز المخزني. کما أن استقرار العديد من الأسر اليهودية بالصويرة وإمکانيات التنقل والسفر بين المراسي الأطلسية وأوربا غير من وضعية اليهود کفئة محصورة داخل أسوار الملاح. کل هذه التطورات لم تکن لتمر دون أن تحدث ردود فعل لدى الغالبية المسلمة التي رأت فيها تمردا واضحا على وضعية الذمة التقليدية. فالعديد من التجار اليهود أصبحوا يسافرون إلى أوربا، وقد يستقرون بجبل طارق أو غيره ليعودوا إلى المغرب بجنسيات جديدة واسم أوربي ولباس غربي لا علاقة له باللباس المغربي التقليدي.
وهناک عامل ثان ساهم في تدهور العلاقات بين المسلمين واليهود عند بداية القرن التاسع عشر، ويتعلق بالصراعات الأوربية والمخاوف التي أحدثتها في صفوف المغاربة، خاصة بعد الغزو الفرنسي لمصر ثم اکتساح الجيوش النابليونية لإسبانيا. وکان من الطبيعي أن تنظر العامة إلى اليهود، بحکم التداخل التجاري المتزايد بينهم وبين الأوربيين، بعين التشکک والحذر. ويشير مؤلف الابتسام إلى الموقف المتواطئ ليهود مصر مع الفرنسيين، حيث أنهم ساعدوهم في ترجمة القرآن، حسب زعمه، وأطلعوهم على عورات المسلمين .
وکنتيجة لهذا المناخ المشحون ازدادت أسباب الاصطدام والمواجهة. ففي سنة 1804 شعر يهود الصويرة بالحاجة إلى إجراءات وقائية، فطلبوا من المولى سليمان أن يسمح لهم ببناء حي خاص بهم، فکان أول ملاح تعرفه المدينة . ومما يؤکد الحساسية المتزايدة للأغلبية المسلمة إزاء مظاهر تمرد اليهود على وضعية الذمة أن السلطان أصدر أمرا في سنة 1806 يمنع اليهود من ارتداء اللباس الأوربي . وفي نفس الوقت أمر يهود مرسى العرائش، وکان عددهم يناهز الألفين، بمغادرة المدينة بعد اتهام تجارهم ببيع الخمر للمسلمين . ومما لا شک فيه أن القوى الدينية المحافظة مارست بدورها ضغوطا على المخزن من أجل حصر اليهود في إطار الذمة، وهو ما يفسر بناء ملاحات في مدن لم تکن بها أحياء خاصة باليهود من قبل، کسلا والرباط وتطوان . ويظهر أن الإجراءات التي أقدم عليها السلطان لم تکن ذات جدوى، کما کان الحال بالنسبة لتفشي اللباس الأوربي ضمن التجار اليهود. وهکذا نجد المولى سليمان يجدد أمره في سنة 1815 بمنع اليهود من ارتداء اللباس الأوربي وبضرورة أداء الجزية لبيت المال. أما الذين رفضوا الالتزام بهذه الأوامر بذريعة أنهم رعايا دول أجنبية فقد طلب منهم مغادرة البلاد .
إلا أن هذه الإجراءات التي لجأ إليها السلطان يجب ألا تفسر على أنها تعبير عن تزمت ديني أو عداء لليهود. فالمولى سليمان نفسه لم يغير شيئا في نهج والده بخصوص التعامل مع التجار اليهود واستمر في الاعتماد عليهم کجباة للضرائب أو کتجار للسلطان يکلفون بمهام تجارية وسياسية في الخارج . کما أظهر السلطان في أکثر من مناسبة حزما في حماية اليهود. فعندما حاول تجار فاس المسلمون منع التجار اليهود من بيع سلعهم بأسواق المدينة القديمة أصدر ظهيرا يوضح فيه عدم شرعية هذا المنع الذي لا يهدف في رأيه إلا إلى شيء واحد، وهو الاحتکار غير المشروع المؤدي إلى ارتفاع الأسعار . وبعد هزيمة زيان في سنة 1819 نجد أن السلطان يستعين بالتجار اليهود لاقتناء الأسلحة الأوربية والمواد العسکرية الضرورية لإعادة بناء جيشه المنهار . وفي أعقاب هذه الهزيمة شاعت الفوضى في البلاد ونهب جيش الأوداية بفاس ملاح المدينة. إلا أن المولى سليمان أدان عملهم وطالبهم بإرجاع ما نهبوه إلى أصحابه .
وخلال الحقبة الأخيرة من حکم هذا السلطان نجد أن المخزن استمر في الاعتماد على التجار اليهود. وعندما قرر المولى سليمان فتح مرسى الجديدة في وجه التجارة الخارجية في سنة 1822 کان بعض کبار التجار اليهود في مقدمة ممن استعان بهم في هذه العملية . لذلک فإن الإجراءات التي اتخذها المولى سليمان ببناء ملاحات جديدة أو إلزام اليهود العائدين من أوربا بالإحجام عن اللباس الأوربي لم يکن القصد منها إلا حماية أهل الذمة وتذکيرهم في نفس الوقت بالوضعية المخصصة لهم داخل المجتمع الإسلامي، خاصة في وقت ألقت فيه التناقضات الأوربية بظلالها على الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، وهو ما ساهم بشکل غير مباشر في تأزم العلاقات بين المسلمين واليهود.
يتصرف من مقال الأستاذ خالد بن الصغير بعنوان "المجتمع والدولة بالمغرب في بداية القرن التاسع عشر" بتصرف. أستاذ تاريخ المغرب المعاصر. كلية الأداب و علوم انسانية . جامعة محمد الخامس .الرباط.
بعض أعمال الأستاذ خالد بن الصغير :
المغرب وبريطانيا العظمى في القرن التاسع عشر
تجار الصويرة
الأرشيف البريطاني وكتابة تاريخ يهود المغرب