كان المغرب أول من انشق عن الحكم الأموي. ويرجع هذا إلى قيام ثورة عارمة قادها الأمازيغ وسمتها المصادر بثورة البربر ، هؤلاء الذين اعتنقوا مذهب الخوارج الصفرية، وقد عرفت نحلة الخوارج انبثاقها في زمن الفتنة الكبرى حول منصب الخلافة في المشرق بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. وانسجاما مع مبادئهم التي دافعوا عنها في المشرق ضد الأمويين الذين جعلوا من السلطة الزمنية مُلكا على شاكلة الروم البيزنطيين والساسانيين الفرس، عمل الخوارج على الفرار إلى أطراف العالم الإسلامي نتيجة المطاردة والتقتيل اللذين لحقا بهم في قلب الدولة الأموية.
وحاولت بعض الدراسات التاريخية أن ترى الثورة الخارجية في بلاد المغرب وكأنها مظهر من مظاهر التنافر العرقي بين الأمازيغ والعرب أو نوعا من الإحساس الوطني المبكر لدى أهالي بلاد المغرب. ودون الذهاب بعيدا في التأويل، نستطيع القول إن البربر الذين تحملوا الوجود البيزنطي، فإنهم لم يتكيفوا مع سلطة دمشق، خصوصا عندما شرع الولاة الأمويون في بلاد المغرب بتقليد السياسة الجبائية القاسية التي كان يفرضها الأباطرة الإغريق. وبالتالي يصبح من المقبول، الزعم بأن الأمر يتعلق بتنافر ذي طبيعة اجتماعية، تتعلق بتمرد ضد أقلية واردة من الخارج أرادت الاستئثار بخيرات البلاد وتطويعها لمصلحتها.
ويمكن تفسير اندلاع الثورة من المغرب الأقصى بكونه كان آخر المناطق فتحا من قبل العرب، كما أن قبائله لم تعتد الخضوع لسلطة خارجية بالمقارنة مع إفريقية التي ترومنت منذ زمن بعيد واعتادت على دفع الضرائب للبيزنطيين. كما أن ولاة بلاد المغرب استمروا في اعتبار المغرب الأقصى دار حرب كما يتبين من حملة سنة 116 ه / 734 م التي تجاوزت بلاد السوس إلى جنوب الصحراء للحصول على غنائم وجلب العبيد.
حاول الوالي عبيد الله المرادي أن يسير "سيرة الحجاج" في البربر بتخميسهم أي بفرض ضريبة الخراج بنسبة تصل إلى 20 في المائة تستخلص قيمتها عبيدا وليست أموالا، وكان قد تسبب قبل ذلك في ثورة أقباط مصر بالرفع من قيمة الجزية الموضوعة عليهم.
اندلعت الثورة ردا على هذه التجاوزات وأسفرت عن مقتل عبيد الله. وقد تزعم الثورة ميسرة السقاء وتسميه المصادر العربية ميسرة الحقير واستطاع إخضاع طنجة والسوس وهزم التعزيزات العسكرية القادمة من الأندلس وصقلية. وعلى واد الشلف دارت معركة
الأشراف التي انتهت بإبادة جيش العرب. وبالتالي دخلت بلاد المغرب مرحلة أخرى من مراحل التفجر والمواجهة مع ولاة الخلافة.
وقد اتسمت حروب الخوارج في المغرب بظاهرتين أساسيتين:
-الأولى: رفض أي دولة تقوم على الجور واللامساواة مثل الدولة البيزنطية.
-الثانية: العجز عن إقامة دولة مضادة في المراحل الأولى على أساس تطوير عضوي للبنيات الموجودة آنذاك في المجتمع.
تطور الحركة الخارجية
تلقى الجند الشامي هزيمة جديدة على يد الخوارج على ضفاف واد سبو سنة 124 ه وفر ما تبقى من العرب إلى الأندلس حيث ظلوا هناك. لكن الخوارج فشلوا على مشارف القيروان وتلقوا هزيمتين اثنتين، جعلت سلطة الولاة الأمويين في موقف قوة، ومع ذلك استمرت الاضطرابات والثورات الخارجية، خصوصا بعد أن دخلت دولة الأمويين في المشرق مرحلة الضعف والانهيار التي انتهت بزوالها ووصول العباسيين إلى الخلافة.
في هذه الأثناء استطاع أحد القادة العرب العسكريين وهو عبد الرحمن بن حبيب الفهري الجواز من الأندلس في اتجاه إفريقية سنة 126 ه وأسس إمارة شبه مستلقة، لكنه تعرض للاغتيال على يد أخيه إلياس سنة 137 ه. وقد اعتبرت الخلافة العباسية كسابقتها الأموية أرض المغرب بلادا للقتال المستمر وتحصيل الجباية على اعتبار أنها فتحت عنوة ووجب إخضاعها لنظام الخراج )أي تحصيل حوالي ربع الإنتاج جباية(، وفي حوالي سنه 753 م كتب عبد الرحمن بن حبيب إلى الخليفة المنصور العباسي: "إن إفريقيا اليوم إسلامية كلها وقد انقطع السبي منها". وإذا كان في ذلك تأكيد على أن دولة الخلافة كانت ترى في بلاد غنيمة يجب استنزافها، فإنه من جهة أخرى يؤشر على مرحلة جديدة في تاريخ التحول الجديد سياسيا ودينيا واجتماعيا.
كان الظلم الاجتماعي الذي استشرى في بلاد المغرب من صنع الخلافة وعمالها، وهو أمر ساعد البربر الذين أعلنوا إسلامهم على اعتناق مبادئ الخوارج التي تحُ ض على الثورة على الحكام الجائرين، وهكذا كانت مبادئ الخوارج متوائمة مع طباع البربر الفطرية ومتمشية مع أهدافهم السياسية ونزعتهم القومية.
ساعدت هذه الفتن الخوارج على الاستيلاء على القيروان فيما بين 144-140. وأرسل العباسيون تعزيزات عسكرية انطلاقا من مصر لإعادة إفريقية إلى سلطة الخلافة، ونجح ابن الأغلب في طرد الخوارج، غير أن ثورة الجند العربي جعلت نتائج هذا النصر محدودة.
وعمل خلفاء ابن الأغلب على استقدام فرق عسكرية من خراسان والعراق والشام وتم توسيع نطاق السيادة الأغلبية إلى حدود الحضنة والزاب في نطاق السيادة الرومانية السابق. وبالنتيجة تم احتواء الحركة الخارجية في الأطراف الشمالية لكن دون القضاء عليها واتجه الخوارج لتأسيس إمارتين في أطرف الصحراء هما إمارتا: سجلماسة الصفرية وتاهرت الإباضية.
وبالتالي اتجهت الأحداث نحو تأسيس إمارات مستقلة في المغرب الأوسط والمغرب الأقصى والأندلس قاسمها المشترك، في الغالب، العداء لسلطة العباسيين ولسلطة الأمويين قبل هُم، وأصبح الغرب الإسلامي مجالا للتعبير عن رفض الدولة المركزية وتكوين إمارات بعيدا عن مجال سطوتها، وصارت التجزئة السياسية في دار الإسلام أمرا واقعا.
محاضرة الأستاذ حميد الفاتحي وحدة الغرب الاسلامي من الفتح الى القرن 5 هجري. جامعة ابن طفيل القنيطرة