كان أثر الحضارة الإسلامية على أوروبا في العصور الوسطى وفضلها عليه واضحا ، فقد تزامنت هذه الأخيرة مع ازدهار الحضارة الإسلامية التي لم تتوقف عند نقل العلوم و الثقافات، بل عمل العديد من المفكرين على شرح المخطوطات وتبسيطها حتى يسهل على القارئ استيعابها في مجالات الطب والفلك والرياضيات... وقد أخذت الحضارة العربية الإسلامية تزحف تدريجيا من القرن 10 م نحو أوروبا للتأثير على أوروبا خلال العصور الوسطى عبر ثلاث بوابات رئيسية وهي :
الأندلس
كانت الأندلس رمزا للحضارة الإسلامية و تحولت عدد من مدنها إلى محج للرحالة القادمين من أوروبا رغبة في لاستزادة من العلوم، كما تم إرسال بعثات طلابية إلى الأندلس الإسلامي قادمة من إنجلترا و فرنسا و ألمانيا، بل إن "سلفستر الثاني" اعتلى عرش البابوية سنة 999 م بعدما قضى في الأندلس جزءا من حياته يدرس علوم العرب وفنونهم.
صقلية
لقد خضعت صقلية، ومعها مالطا، لحكم الحضارة الإسلامية في تاريخ ما بين القرن 9 م إلى القرن 11 م ورغم أن مقام الإسلام و المسلمين لم يدم بها كثيرا إلا أن تأثير الحضارة الإسلامية ظل مستمرا ولم ينقطع وجودهم، إذ تورد المصادر العربية والأجنبية أن ملك صقلية "روجر الأول" أحسن معاملة مسلمي المنطقة الذين برعوا في صناعة الورق و فن المعمار إلى جانب صناعة الحرير واستخراج المعادن.. ومن صقلية امتد التأثير إلى باقي المدن الإيطالية، وهو ما يؤكده المستشرق الصقلي أمندي بقوله: "صقلية مدينة للعرب بحضارتها، كما أن إيطاليا مدينة لصقلية باقتباس معالم الحضارة العربية’’
ومع مجيء "روجر الثاني" استعان بجنود وشعراء عرب وعلماء مسلمين، من أشهرهم الجغرافي ابن مدينة سبتة "الشريف الإدريسي" وكلفه بكتابة مؤلف جغرافي حمل اسم : "نزهة المشتاق في اختراق الأفاق"، كما أوكل إليه صنع كرة فضية تمثل شكل الأرض، وانتقل هذا الاهتمام إلى بعض المدن الإيطالية مثل جنوة، التي شيدت سنة 1207 م مدرسة لتعلم اللغة العربية .
المشرق العربي
لا ننسى مهد الحضارة الإسلامية. فمع أن الشام ومصر كانتا مسرحا لحملات صليبية متعددة بين القرنين11 م و 13 م, فقد تركت بصمات و تأثير واضحا على مستقبل اوروبا و كان لها فضل في تطورها الفكري و الحضاري، سواء في مجال الفنون أو الآداب أو العلوم، بل وحتى على مستوى المصطلحات المستعملة. فقد أثرت الحروب في تطوير تقنيات البناء، ونقل الأوروبيون العديد من المغروسات مثل الثوم والليمون، كما تم اكتشاف الناعورة وبعض الأقمشة الحريرية.
وهكذا لم تكن الحروب الصليبية مرحلة قطيعة بين المشرق و الغرب ، بل على العكس أحيانا، لجأ المرضى الصليبيون إلى الأطباء المسلمين وكان لهذا فضل في بداية الإهتمام بالطب من عند الحضارة الاسلامية إلى أوروبا .
كان اتصال الغرب الأوروبي في العصور الوسطى ب الحضارة و العالم الاسلامي فضل ومن بين العوامل التي ساهمت في قيام النهضة في أوروبا. ففي الفترة التي كانت فيها أوروبا تخطو خطوات بطيئة في الظلمات الجهل أيام القرون الوسطى (العصر الوسيط) ما سمي أيضا ب "عصر الظلمات"، كانت الحضارة الإسلامية في هذا العصر تعيش تقدم العلوم و الفنون و الرياضيات و الفلك و الجغرافيا و التاريخ ... وكان لاضطلاع الأوربيين على الكتب العربية أثر و فضل كبير. وبدأت في أوروبا نهضة يطلق عليها تعبير "النهضة الوسيطة" الممهدة لعصر نهضة خلال العصر الحديث. وقد استفادت حضارة أوربا الغربية بشكل كبير من الناحية الحضارية، لأنها صارت على اتصال وثيق ومباشر بالعالم الإسلامي في مراكز اشعاعه الحضاري والفكري. مساهمة الحضارة الإسلامية في قيام النهضة الأوروبية.
بتصرف من محاضرات الأستاذ محمد الكرادي وحدة النهضة الأوروبية كلية الأداب و علوم انسانية جامعة ابن طفيل القنيطرة