يعتبر عبد الرحمان ابن خلدون من أعظم المؤرخين أطلق عليه لقب "أبو العلوم الاجتماعية" لإسهاماته الهامة في الاقتصاد وعلم الاجتماع والتأريخ. أعطى نظرة شاملة وحقيقية في موضوع التاريخ وكتابة تاريخ الحضارة بمعناها الشامل. سنتعرف في هذا الموضوع عن مسار ابن خلدون و خصائص البيئة العائلية التي نشأ وترعرع فيها، ثم أحوال العصر الذي عاش وعمل وفكر خلاله و نقف على أهم الحوادث التي تعرض إليها خلال حياته العامة آثاره . هذه الخصائص مهمة لأنها أثرت في تكوينه الفكري العام كما ألهمته النظريات التي دونها في مقدمته المشهورة.
نسب ابن خلدون و نشأته
ولد ابن خلدون في تونس سنة 1332م، 732 هجرية وتوفي في القاهرة سنة 1406م، 808 هجرية، أي عاش مدة لا تقل على ثلاثة أرباع قرن من الزمن.
ان أسرة ابن خلدون حضرمية النسب إذ يرجع نسبها إلى وائل بن حجر الذي كان من كبار الصحابة والذي تولى مهمة تعليم القران ونشر الإسلام في اليمن. مع ذلك يعتبر ابن خلدون نفسه مغاربيا وشكك في شجرة نسبه
"لا أذكر من نسبي إلى خلدون غير هؤلاء العشرة ويغلب على الظن أنهم أكثر وأنه سقط مثلهم عدداً لأن خلدون هذا هو الداخل إلى الأندلس فإن كان أول الفتح فالمدة لهذا العهد سبعمائة سنة فيكونون زهاء العشرين ثلاثة لكل مائة كما تقدم في أول الكتاب الأول" .
في أوائل القرن الثالث للهجرة، رحل أحد أحفاد هذه الأسرة إلى الأندلس وهو خالد بن عثمان وتغير اسم خالد هذا إلى خلدون وبه عرف أبناؤه وأحفاده من بعد.
عصر ابن خلدون
في عصر ابن خلدون كان العالم الاسلامي ينقسم إلى قسمين: المغرب والمشرق.
فالمنطقة التي تمتد من مصر إلى المحيط تسمى المغرب في حين أن المنطقة الممتدة من مصر وما يليها من البلاد العربية كانت تسمى المشرق.
أما الأندلس فكانت مغربية بحكم وضعها الجغرافي وإن كانت منفصلة عما يسمى "ببلاد المغرب". (ان اظفنا الأندلس على بلاد المغرب تصبح التسمية الغرب الاسلامي اندثرت هذه التسمية بعد سقوط غرناطة)
بالنسبة للمغرب فقد كان مجزءا إلى ثلاث دول(شبيهة بما لدينا اليوم من دول في المنطقة حسب عبد الله العروي) يحكمها ثلاث اسر حاكمة:
بنو مرين في المغرب الأقصى، بنو عبد الواد في المغرب الأوسط وبنو حفص في المغرب الأدني والذي يسمى
"افريقية". كانت دولة بنو عبد الواد اضعف هذه الدول وأشدها تعرضا للفتن والتقلبات لأنها كانت محصورة بين دولتين وبالتالي كانت مضطرة إلى توزيع قواها على الجبهتين. وفضلا عن ذلك فإن عاصمتها تلمسان لم تكن بعيدة عن مدينة فاس عاصمة بنو مرين الذين كانوا اقوياء في عصر ابن خلدون.
على العموم فإن الأوضاع السياسية في المغرب ككل كانت دائمة التقلب وخلال مدة إحدى عشر سنة وصل السلطان المريني أبو الحسن إلى تونس بهدف ضمها إلى الدولة المرينية أما ابنه أبو عنان الذي كان في فاس فقد ثار على والده مما اضطر الأب إلى العودة إلى المغرب وهنا كانت بداية ابن خلدون في عمله السياسي إذ اتصل بالسلطان أبو عنان ودخل في خدمته وهو في سن الثالثة والعشرين. بوفاة السلطان أبو عنان ناصر ابن خلدون السلطان الجديد أبو سالم وبقي في خدمته مدة من الزمن.
ما يجب ملاحظته وهذا سيؤثر حتما في فكر ابن خلدون هو أن أهم القوى التي كانت تستند إليها هذه الثورات والانقلابات كانت قوة العشائر البدوية العربية و اللأمازيغية المستقرة في مختلف الأقطار المغربية لأنها كانت بمثابة قوات مسلحة مستعدة للغزو والحرب في خدمة هذا الأمير أو ذاك وكان عملها يشبه إلى حد كبير عمل الجيوش المرتزقة.
عاشر ابن خلدون القبائل البدوية مدة طويلة وبفضل ذكائه وجرأته ونفوذه وطلاقة لسانه صار يؤثر في سياسة الدولة المغربية تأثيرا ملحوظا بفضل علاقاته بالعشائر المذكورة وسيطرته المعنوية عليها. ولا شك في أن ما كتبه عن تاريخ
المغرب وعن العمران البدوي بوجه خاص كان من نتائج المعلومات التي جمعها والخبرات التي اكتسبها خلال معاشرته لمختلف القبائل الأمازيغية والعربية.
في فاس أقام ابن خلدون ثمانية أعوام فأتصل بكثير من رجال العلم والأدب و استفاد منهم، كان بعضهم ممن يقيمون في فاس وبعضهم أتي إليها من الأندلس. خلال هذه الأعوام نظم الشعر وألقى الخطب كما كتب الرسائل. كما خاض غمار الحياة السياسية فكانت كثيرة التقلب فتولى وظائف عديدة في عهود أربعة سلاطين ووزيرين من الوزراء، شاهد عدة انقلابات لعب في بعضها دورا هاما واشترك في مؤامرة كانت قد فشلت و أودت به إلى السجن. هذه المؤامرة تجلت عندما حاول ابن خلدون مساعدة الأمير الحفصي المعتقل في فاس للرجوع إلى تونس بعد مرض السلطان أبي عنان المريني. فاعتقل ابن خلدون عقب هذه المؤامرة ولم يخرج من السجن إلا بعد وفاة السلطان المريني أبو عنان.
ساهم ابن خلدون مساهمة فعالة في نصرة السلطان أبو سالم المريني، هذا الأخير أعاد له الاعتبار حينما أسند إليه كتابة سره بل ولاء شأن المظالم كذلك.
بعد هذا المقام رحل ابن خلدون إلى الأندلس وسبب اختياره الأندلس يرجع إلى التعارف الذي حصل بينه وبين سلطان غرناطة عندما كان في فاس ثم أواصر الصداقة والمودة التي جمعته والوزير لسان الدين بن الخطيب خلال إقامته هناك. كما أنه تولى رعاية عائلة لسان الدين بن الخطيب مدة بقائها في فاس حتى انتهاء الاضطرابات في الأندلس.
فخلال مقامه بالأندلس رحب به السلطان وكذلك الوزير ترحابا كبيرا بل نجد ابن خلدون قد كلف بعقد صلح بين سلطان غرناطة وملك قشتالة وتوفق في هذه المهمة بل إن ملك قشتالة عرض عليه البقاء في اشبيلية لكنه رفض هذا الاقتراح.
لكن سرعان ما قرر مغادرة الأندلس والالتحاق بمدينة بجاية وذلك لسببين:
- شعر ابن خلدون بتوجس لسان الدين بن الخطيب حيث أن هذا الأخير خاف من تعاظم نفوذ ابن خلدون لدى السلطان.
- إن الأمير محمد أبو عبد الله محمد قد استولى على بجاية وطلب من ابن خلدون إسناده منصب الحجابة. وعندما وصلها احتفل السلطان به احتفالا رائعا وولاه ارفع مناصب الدولة وهي الحجابة.
ومعنى الحجابة حسب وصف ابن خلدون لها "الاستقلال بالدولة والوساطة بين السلطان وأهل دولته لا يشاركه في ذلك أحد". ويفهم من هذا الوصف أن الحجابة أو الحاجب كان بمثابة الصدر الأعظم قبل إنشاء مجالس الوزراء والبرلمانات.
لكنه لم يدم في هذا المنصب إلا سنة واحدة إذ سرعان ما قتل السلطان من طرف ابن عمه، هذا الأخير کرمه وقربه منه لكن كثرة الدسائس والمكائد قرر ابن خلدون مغادرة بجاية إلى بيسكرة.
اقترح عليه منصب الحجابة في هذه الولاية لكنه رفضها ومع ذلك لم ينقطع عن الأعمال السياسية بتاتا بل استمر في مزاولتها وظل يلعب دورا هاما في سياسة الدول المغربية بأسلوب خاص إذ صار يخدم هذا السلطان أو ذاك عن طريق استمالة القبائل دون أن يتولى منصبا رسميا ودون أن ينتسب إلى حكومة من الحكومات ولا نغالي إذا قلنا إنه كان يوجه العشائر إلى خدمة السلاطين الذين يؤازرهم حتى إنه كان يصطحبها في بعض الأحيان.
نهاية مساره السياسي:
رجع ابن خلدون إلى المغرب والى مدينة فاس لكن المغرب في هذه الفترة عرف عدة اضطرابات نتيجة التطاحنات السياسية بين أفراد الأسرة المرينية ويمكننا القول أن ابن خلدون قد مل هذه الأجواء والاضطرابات السياسة فرحل إلى الأندلس ثم إلى قلعة بني سلامة التي قضى فيها أربع سنوات ما بين 1374-1378.
مؤلفات ابن خلدون:
كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر.
كتاب العبر هذا مكون من مقدمة وهي الأشهر (مقدمة ابن خلدون) وثلاث كتب:
-الكتاب الأول في العمران والملك والسلطان والعلوم وما لذلك من العلل والأسباب.
-الكتاب الثاني في أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ بدأ الخليفة إلى عهده وفيه نظرة ببعض من عاصروهم من الأمم كالفرس وبنو إسرائيل واليونان والرومان والأتراك.
- الكتاب الثالث في أخبار البربر وتاريخ المغرب.
رحل ابن خلدون في اخر محطة له الى مصر المملوكية يسبقه صِيته السياسي وصَوته العلمي و استقر فيها . حصل في مصر على منصب قاضي قضاة المالكية. كما أنه قابل القائد المهاب تايمور لنك في حصاره لدمشق حيث كان ضمن بعثة التي ارسلت له لكي يكف عن الحصار.
و اكمل ابن خلدون في مصر كتبا اخرى منها :
مذكرته ''التعريف بابن خلدون ورحلاته شرقاً وغرباً''
و الثاني عن التصوف ''شفاء السائل وتهذيب المسائل''
توفي بن خلدون في مصر سنة 1406م بعد حياة سياسية حافلة.
ابن خلدون حياته وتراثه الفكري، محمد عبد الله عنان، دار الكتب المصرية ـ القاهرة [ 1352هـ= 1933م]
محاضرة الاستاذ عبد الرحمان بحيدة. مدخل لدراسة التاريخ. جامعة مخمد الخامس. كلية الاداب و علوم انسانية الرباط
عبد الرحمن بن خلدون مقدمة ابن خلدون تحقيق علي عبدالواحد وافي دار الشعب القاهرة 1950