عن الكتاب
مقتطف من الكتاب
يبدو الموضوع فضفاضا ويطفو على طرحه نوع من العناوية. ويحق للقارئ أن يتساءل عن الأهداف المتوخاة من هذا الطرح. فما المبررات المعتمدة في ذلك؟ لقد قيل وكتب الكثير عن هذا الموضوع الذي كان مصدر لبلورة نظريات وفرضيات في فضاءات متعددة وضمن تخصصات مختلفة. وحاول الذين عالجوا بعض جوانبه، في ظرفيات معبرة، التفكير في التحديات المادية التي واجهت وما زالت تواجه مناطق كثيرة من العالم. وانطلق الباحثون من سؤال شبه أسطوري: كيف تقدم الغرب وتأخر غيره ؟ ويندرج هذا السؤال ضمن الصرحة الدفاعية المناهضة لمركزية الغرب عموما وأورباً خصوصاً.
لم بيق تاريخ الكون بحسداً في تاريخ أوربا؛ فقد أصبحت شعوب وقارات أخرى تؤدي أدواراً أساسية على الساحة الدولية. وبالرغم من هذه الحقيقة، فإن العقلية الأوربية تستمر في دراسة الماضي وذكره وكأن الكون لم يكن عبر الأحقاب التاريخية سوى خريطة لا توجد بداخلها إلا أوربا المحاطة بمياه البحار والمحيطات على غرار ما كان سائداً خلال العصور الوسطى وعمل هذا المنهج الإقصائي على ترسيخ مقولة الحضارة الإغريقية منبعاً ومصدراً لكل الحضارات المؤمنة بالتقدم وبالعقل.
حاولت أوربا الانفراد بالمبادرة وعملت على فرض إيقاعها على الآخرين. ولما تحقق لها ذلك صارت تتلذذ وتفتخر بملكاتها العقلية لتنظر من فوق إلى العوالم الأخرى كما يفهم ذلك من الحكايات الأوربية المتحيزة. يقول ديلماس: " عندما يفتح الإنسان الأوربي أي أطلس جغرافي سنة 1914، فإنه يشعر بالنشوة وبالافتخار لأن قارته تسيطر على معظم إفريقيا، وعلى حزر الأقيانوس، بالإضافة إلى نصف آسيا وربع أمريكا. وأشار ديلماس هذا إلى الدوافع التي جعلت العالم عاجزاً عن مسايرة هذه القارة، فقال: "استطاعت أوربا، بفضل صناعتها، أن تعيد تنظيم الحضارات الأخرى وترتيبها بحيث أصبحت الحضارات التي لا تملك الآلة الصناعية ولا تخترعها عاجزة عن المسايرة .
والمثير في الأمر أن مدعي هذه المواقف قد نسوا أو تناسوا أن قوة أوربا وتقدمها جاء نتيجة استغلافها لمقومات وخيرات حضارية أخرى اعترف بها النزهاء من أوربا نفسها: لما وصل الإسلام إلى حدود أوربا، استطاع أن يمارس على هذه الأخيرة تأثيرات إيجابية قوية ومتنوعة، فغير في العمل الأوضاع السياسية الدولية ثم دعم العلوم وشجع الفكر في الغرب... وتعتبر إسبانيا مثلا حيا. فقد استطاع هذا القطر خلال مالي سنة من الاحتلال العربي أن يقفز من مخالب الفقر والإهمال الورقي إلى ريادة أوربا والغرب وتحقق له ذلك بفضل العربية والتعليم الذي أدخله المسلمون وضمنوه الفئات في إسبانيا، وتسبب ذلك في ازدهار العلوم والفنون بهذا البلد الذي حافظ، من بين باقي الدول الأوربية، على الريادة في هذه الميادين، لمدة خمسة قرون لكل أخرى.
يبدو أن أوربا القوية قد انبنت على أنقاض حضارات أخرى فيسبب الرحلات والاكتشافات، دخل الأوربيون في مرحلة استنزافية فرضوها على الآخرين بشهادة الأوربيين أنفسهم. لقد أشار المؤرخ هو سير إلى الممارسات التي لجأ إليها الأوربيون بعد الاكتشافات الكبرى، قائلا: "دمر الهولنديون، في مطلع القرن السابع عشر، حضارات بحار الشرق الأقصى ) .