بدأت البوادر الأولى لتأسيس التاريخ أو بداية الكتابة التاريخية في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد، وقت كانت سجالات ومناظرات بين الفلاسفة والشعراء في عالم بحر إيجة Egee، وأول مؤرخ الذين يجوز لنا أن نطلق عليه اسم مؤرخ هو اليوناني هيرودوت Herodotus الملقب منذ العصور القديمة بأب التاريخ. ثم سنتناول بعده المؤرخ ثوكيديدس (ثيوسيديدز) أول ناقد تاريخي Thucydides و ما ميز هذا المؤرخ.
المؤرخ هيرودوت Herodotus
ولد هيرودوت في Halicarnassus على الساحل الغربي لآسيا الصغرى حوالي عام 484 ق.م، أما وفاته فكانت سنة 424 ق.م في مدينة Touré، وهي مستعمرة يونانية في جنوب إيطاليا ينتمي هيرودوت إلى الجيل الأول من العصر الذهبي المعروف في أثينا، ذلك الجيل الذي تميز أبناؤه بالنشاط والحماس والقدرة الخلاقة والتجديد والإبداع، عاصر هيرودوت يوربيديس Euripides وسقراط، إلا أن العادات والعقائد الدينية القديمة كانت تشده إلى الماضي وهذه هي الملامح العامة التي تميز بها الإنتاج العلمي والفكري والأدبي في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد، وهذا ما تميز به تاریخ هيرودوت.
لكن هذا لا يمنع أن نقول إن هيرودوت قدم إضاءات جديدة فهو يقول:
"أريد أن أمنع أن يسقط في النسيان الإنجازات الكبيرة التي قام بها اليونانيون والبرابر خلال الحروب ما بين 490 - 479 ق.م."
إذن فهيرودوت بكتابته التاريخية اعتبر أول مؤرخ، فقد أرخ لفترة قوة اليونانيين ولدولة أثينا التي انتصرت على بلاد فارس وأصبحت أغنى دولة مدينة على عهد بيريكليس Pericles (460 - 429 ق.م) كذلك قام بتدوين ما وقع في الإمبراطورية الفارسية وما وقع في الدول - المدن اليونانية منذ عهد الملك Cyrus (سنة 549 ق.م).
ما ميز هيرودوت هو أنه كان كثير السفر والترحال، فقد زار بلاد ما بين النهرين ومصر، وكان يهتم في كتاباته بتحديد الأودية وذكر الشعوب والعادات الغريبة عن المنطقة التي نشأ فيها، كما كانت الملاحظة والرواية الشفوية من أهم مصادره في الكتابة.
لقد ألف هيرودوت كتابا هاما سماه " التاريخ". هذا الكتاب قسمه إلى تسعة أجزاء، بعدد فروع العلوم والفنون المتعارف عليها في ذلك العصر، كل جزء يحمل اسم Mouza (آلهة يونانية حامية العلوم والفنون). أما حامية التاريخ فتسمى Clio فقد خصص هيرودوت الجزء الأكبر من كتاب التاريخ من الجزء الخامس إلى التاسع للحديث عن الحروب اليونانية الفارسية كذلك تطرق إلى الحديث عن تاريخ Lydia وآشور و بابل ومصر، أما مصادره في هذا الكتاب فهي متنوعة ومتعددة تقوم أساسا على الرواية الشفوية، التي جمعها من أفواه الناس المعاصرين، كما اعتمد أيضا على أخبار من سبقه من الكتاب وعلى بعض الوثائق المكتوبة، لذلك فالقول بصحة أخباره تعتمد أحيانا على صحة مصادره التي اعتمد عليها ومهما يكن من أمر، فإننا نستطيع تصديق الكثير من أخبار هيرودوت خاصة بعد أن دلت معطيات التقنيات الأثرية على صحة ما رواه، لكن هذا لا يعني أن رواياته خالية من الأساطير والخرافات.
المؤرخ ثيوسيديدز Thucydides:
عاش ثيوسيديدز في القرن الخامس قبل الميلاد حوالي 460- 400 ق.م ويعتبر من أعظم إن لم يكن أعظم المؤرخين القدامى، وقد أرخثيوسيديدز Thucydides لحرب البيلوبونيز Peloponnese والتي دارت بين أكبر قوتين في بلاد اليونان وهما أثينا وسبارتا من 431 إلى 404 ق.م، وقد شارك ثيوسيديدز Thucydides في هذه الحرب لكنه فشل في مهمة عسكرية فعزل من منصبه وطرد من مدينة أثينا ليعيش في تراقيا طوال 20 سنة، وقد قرر ثيوسيديدز Thucydides أن يدون أخبار تلك الحروب فكان يزور أمكنة المعارك الحربية ان يري عن كثب دور العوامل الطبيعية التي لعبت دورا هاما في انتصار هذا الطرف أو ذاك، كما كان يبحث عن أناس شاركوا في المعارك ليستنطقهم عما رأوه لكن لم يكن يأخذ بكل ما سمعه و إنما يستوضح الأمر حتى يتحقق من صحة الإخبار.
يمكن القول أنه مع ثيوسيديدز Thucydides ومع كتاب حرب البيلوبونيز نشأت الطريقة أو المنهجية وكذلك ذكاء المؤرخ، بعبارة أخرى، نشأ النقد، نقد المصادر ونشأ كذلك البحث العلمي
بعد وفاته، تناول المؤرخون ورجال الفكر اليونانيين والرومانيين هذا الكتاب فبلغ شهرة كبيرة، فلقب ثوسيديدس Thucydides بأب النقد التاريخي حيث اعتبر أول ناقد تاريخي، لقد عاش ثيوسيديدز Thucydides في النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد، عندما بدأ الفكر اليوناني يخطو خطوات واقعية مبتعدا عن الخيال ومعتمدا على أسس فكرية تستخدم العلوم المنطقية كوسيلة للوصول إلى الأهداف الحقيقية.
فبدأت جذور ثورة في الفكر اليوناني والعقلية اليونانية وبدأ التشكك في الآلهة والمفاهيم الدينية مما أدى إلى تحولات فكرية في بلاد اليونان.
سعی ثوكيديدس Thucydides إذن الوصول إلى الحقيقة التاريخية بتحليل الأحداث السياسية في حياد وموضوعية فخطى خطوة تقدمية في تحليل الوقائع التاريخية إذ أعاد أسبابها إلى تضارب المصالح المادية.