معلومات عن كتاب الغرب الإسلامي والغرب المسيحي خلال القرون الوسطى
العنوان : الغرب الإسلامي والغرب المسيحي خلال القرون الوسطى
سلسلة ندوات ومناظرات رقم 48
تنسيق : محمد حمام
دار النشر : كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط
طبعة الكتاب : 1 - سنة 1995 م
مقتطف من كتاب الغرب الإسلامي والغرب المسيحي خلال القرون الوسطى
كثيرة هي الروايات التي تقدم وكأنها حقائق ثابتة، لا تشوبها شائبة، حتى إذا ما أخضعناها لمحك النقد تبين لنا أنها مجرد خرافات من نسج الخيال. وهكذا فإن المصادر تصور لنا العلاقات بين الإسلام والمسيحية في العصر الوسيط وكأنها مسلسل من الحروب الإبادية، وسجل لسفك الدماء ولأعمال النهب التي كانت ترتكب بمنتهى الشراسة من هذا الطرف أو ذاك، بدافع التعصب الديني. لا أحد ينكر أن المواجهات العسكرية كانت قاسية ومتعددة، وأن الجانب البارز في العلاقات في ذلك العصر هو الذي كانت تشهده ساحة القتال في معركة إثبات الذات. مع ذلك لا نستطيع تجاهل فترات السلم وهي الأطول، التي كانت تتقاطع مع فترات الأزمات والمواجهات المسلحة، وتخلق مجالات رحبة، مشتركة، بين المسلمين والمسيحيين لحل المشاكل العالقة بينهم ومد جسور الوفاق والتعاون في ميادين العلم والمبادلات والنقل البحري وحتى عندما كانت الحروب تندلع، فإن العلاقات لم تكن تنتهي إلى قطيعة كلية لأن الإسلام والمسيحية كانا مجزأين إلى وحدات سياسية متعددة لا تخضع لنفس القرار.
فعندما كان صلاح الدين الأيوني يحارب ريتشارد قلب الأسد، كان ملك صقلية وليم الثاني يعقد علاقات ودية وتجارية مع الغرب الإسلامي. كما أن المسلمين والمسيحيين لم يكونوا ينظرون إلى هذه الحروب على أنها حروب دينية لا يصح خوض غمارها إلا في صف واحد معين، وتحت راية واحدة معينة. فبعض الأمراء المسلمين لم يجدوا حرجا في مخالفة المسيحيين لمقاومة خصومهم من الأمراء المسلمين ؛ وبعض الأمراء المسيحيين تحالفوا مع الأمراء المسلمين أعدائهم في السياسة وإن كانوا من المسيحيين.
من جهة أخرى، فقد تسامحت الدولة المغربية مع المسيحيين المقيمين في ترابها فكانوا يؤلفون حلقات اتصال وتعاطف بين الفريقين. وهل هناك أروع من أن نجد رعايا جنوة، الذين كانوا يعيشون في سبتة يشاركون في الدفاع عن حوزة هذه المدينة عندما هاجمها الصليبيون في العام 1235م (1)، أو أن نجد المسلمين في المهدية يحتمون بدور المسيحيين عندما هاجم الأسطول الصقلي المدينة في العام 1148 م ؟
فمثل هذه الأمثلة، وهي كثيرة، تبين لنا أن التعصب لم يكن شاملا بالشكل الذي نتصوره، وأن الصلات الودية والعلاقات التجارية كانت تفرض نفسها على الطرفين، ليس في فترات السلم وحدها فحسب، بل في عهود الحرب أيضا. هذه الجوانب من التسامح هي التي سأحاول، في مداخلتي، تقديم بعض الأمثلة عنها بالاستناد إلى رحلة ابن جبير الذي خرج من غرناطة في غضون العام 1183 م لأداء فريضة الحج.
حجاج الغرب الإسلامي على متن سفن مسيحية أول ما يلفت النظر في الرحلة هو زمنها فانطلاقة ابن جبير تمت في غضون 1183 م. في هذا التاريخ كانت أصداء الخطة الصليبية الثانية (1147 م - 1149 م) ما تزال عالقة بالأذهان، وكان الصليبيون ما يزالون يحتلون بلاد الشام أيام السلطان صلاح الدين الأيوبي، الذي كان يتخذ ترتيباته استعدادا لطردهم من . البلاد ؛ كما أن الاستعدادات للحملة الصليبية الثالثة (1189م – 1192م) كانت جارية وتخلف أصداء واسعة في بلدان البحر الأبيض المتوسط. مع ذلك فإننا نلاحظ أن الغرب الإسلامي لم يقطع الصلة بديار المشرق بل وأكثر من ذلك، أن هذا اللقاء كان يتم بواسطة سفن مسيحية سواء في طريق الذهاب أو الإياب.
بالفعل، فإن ابن جبير ومن معه من الحجاج المسلمين توجهوا إلى الديار المقدسة وعادوا منها إلى بلادهم على متن سفينة، أو بالأحرى سفن تابعة للغرب المسيحي ؛ فمن سبتة إلى الإسكندرية ومن عكة إلى سينا، ومن أطرا بنش Trapanis إلى قرطاجنة، أبحروا على متن مراكب جنوِيَّة. كما أن السفن التي لاقوها في عرض البحر، أو راسية في المواني المتوسطية كانت مسيحية وتقوم هي الأخرى بنقل الحجاج المسلمين. وهكذا نرى ابن جبير على غرار عشرات من الحجاج الآخرين، يسلم أمره لربابنة مسيحيين من أجل التوجه لأداء الفريضة والعودة إلى بلاده، مما يقودنا إلى مفارقة صارخة، وهي أن الحج الإسلامي من الغرب كان يصب في اتجاه المشرق عن طريق البحرية المسيحية في الوقت الذي كان الصراع على أشده، في المشرق، بين المسيحية والإسلام.
تعرف أن إقبال نفر من حجاج الغرب الإسلامي على استعمال الطريق البحري بدأ بعد اختلال الأمن في الطرق البرية التقليدية من جراء قدوم العرب البدو من قبائل بني هلال وسليم ونزولهم بجنوب إفريقية ثم بجنوب المغرب الأوسط. ونعرف كذلك أن كبار فقهاء المالكية، من أمثال الطرطوشي وأبي عمران الفاسي وابن رشد، مالوا إلى إسقاط فريضة الحج على المغاربة أجمعين بسبب تعذر الطريق البري، وتجنبا للإلقاء بالنفس إلى التهلكة على حد تعبيرهم. لكن الذي يهمنا هو موقف الفقهاء من ركوب الحجاج المسلمين في المراكب المسيحية.
من كثرة أثارت هذه المسألة جدلا خصبا بين العلماء، كما يتجلى ذلك الفتاوي التي صيغت حولها. ويفهم من مختلف الأسئلة والأجوبة التي كانت تطرح أو تقدم في الموضوع أن مسألة الركوب أصبحت مسألة مألوفة كما تدل على ذلك هذه العبارة الواردة في «المعيار» : جرت العادة عندنا بالسفر في البحر في مراكب النصارى ويكرونها للمسلمين من إفريقية إلى الإسكندرية إلى ناحية المغرب كذلك».
ومن تم طرح السؤال : هل يسوغ ركوب البحر والغالب عليه الغرور والخوف من الروم ؟(6). حول هذا السؤال، تضاربت آراء العلماء. لكن الأجوبة التي قدموها لم تكن كلها سلبية، بحيث إن طائفة منهم اتخذوا موقفا يتسم بالاعتدال، فلم يحرموا الركوب في مراكب أعداء الدين، كما يقولون، إلا إذا تأكد للحاج المسلم أن ركوبه يؤدي إلى أن تجري أحكام النصارى بالإهانة عليه،، كأن يكره على السجود لصنم، أو على ما من شأنه أن يؤدي إلى إذلال للإسلام، مضيفين ـ وهذه عبارة ذات دلالة - أن العادة لم تجر بذلك في مراكبهم.