معلومات عن الكتاب
اسم الكتاب : الموت الأسود جائحة طبيعية وبشرية في عالم العصور الوسطى
الكاتب : روبرت س. جوتفريد
ترجمة و تقديم : أبو ادهم عبادة كحيلة
مقتطف من الكتاب
كما هي الحال مع غيره من الأمراض المعدية كان للموت الأسود تاريخ طبيعي. بحيث لا يمكن فهمه إلا في هذا السياق، ولدينا البيئة في المحل الأول). ومن يقوم برحلة في أيامنا هذه عبر القارة الأوروبية، فربما يصعب عليه أن يتخيل ما كانت عليه الحال في تلك القارة قبل ألف عام فلم تكن لتتوافر بها مجتمعات حضرية وصناعية، وهي الملمح البارز للقرن الأخير بل إنه لم يتوافر بها سوى اليسير من المدن الصغيرة المتباعدة التي تقع على مقربة من البحر أو الأنهار الكبيرة. ولدى منتصف القرن الثاني عشر لم يكن يوجد سوى القليل من المراكز الحضرية في إيطاليا والبلاد الواطئة)، بل إن باريس ذاتها لم تكن تضم سوى الخمسين ألفًا أو من يناهزهم من السكان، في حين كانت غالبية تلك المراكز تضم ألفًا أو نحوا من ذلك، بحيث كنا نجد تسعة بين كل عشرة من الأوروبيين. يعيشون في محلات صغيرة أو قرى تضم عدة مئات من السكان، وتصل المسافة بين الواحدة منها والأخرى إلى ما يتراوح بين خمسة عشر ميلاً إلى عشرين. وكانت المدن والقرى جميعها تتسم بالصغر وضيق المساحة ولا تتهيأ لها وسائل صحية كافية ولا وسائل نقل. ومما يدعو للسخرية أن غالب سكان تلك المحلات الصغيرة والمنعزلة، كانوا يعيشون على مقربة من بعضهم، مع قدر قليل من الخصوصية.
كانت تحيط بتلك القرى حقول ومراع وأحراج يعيش عليها معظم الناس، وفي سنة ( ١٢٥٠م) كانت الحقول والمراعى تسود المشهد الأوروبي، لكنه قبل ذلك، وحتى منتصف القرن الثاني عشر على الأقل، كانت الأحراج بامتدادها وكثافتها هي الملمح الأساس للبيئة الأوروبية : ففى قاصية الشمال في معظم أنحاء اسكندناوة وروسيا كانت الأشجار المخروطية تضم في أساسها أشجار التنوب (۱۳)، مع يسير من أشجار البتولا ، وحيثما كانت الأرض فقيرة فى صرفها منخفضة في رفعها كانت توجد المستنقعات والسبخات والسهوب الجرداء tundra أما في سائر أنحاء أوروبا فكانت توجد غابات نفضية. وقد أفضى المناخ البارد الرطب والتربة الحمضية - حول البحر البلطى وبحر الشمال وفي معظم الأنحاء بشرقى أوروبا إلى نمو أشجار الزان يحيط بها نبات الآس برى holly وغيره من aquifoliacs . وكانت معظم الأراضي في أواسط أوروبا مغطاة بأشجار البلوط، وحيثما كانت التربة قلوية، خصوصًا على جوانب الألب والكاربات Carpathians كانت تلك الأشجار تختلط بجار الماء alders ، وحيثما كانت تزداد الأمطار وتزداد كذلك حموضية التربة، كما هي الحال في معظم الأنحاء الوسطى والشمالية من فرنسا، وفي أواسط ألمانيا كانت تتوافر أشجار البلوط تحيط بها أشجار البتولا والحور aspen، وفي جنوبي الألب أى فى معظم حوض البحر المتوسط، حيث تكون أشعة الشمس أشد بريقًا وترتفع درجات الحرارة كان يقل تساقط الأمطار، مع تفاوتها على مدى العام وكانت التربة في معظمها رملية وحمضية، وكان قد تم التوطن في ذلك الإقليم قبل أن يتم التوطن في شمالى أوروبا بزمن طويل. كما كانت توجد به كثافة سكانية عالية، ومن هنا كانت غاباته أقل منها شمالاً، لكنه كان ما يزال يحتفظ طيلة القرن الثاني عشر بمعظمها. لا سيما المخروطية بما فيها أشجار الصنوبر والعرعر Junipers، التي في إمكانها أن تحتمل التربة الرملية.
لدينا اعتبار آخر في دراسة الأمراض هو السببية (۳): فجميع الأوبئة بما فيها الطاعون كان المتسبب فيها طفيليات لها صلات بغيرها من كائنات حية أكبر منها، وتعد هذه الصلات جزءًا طبيعياً في الإيكولوجيا البشرية والحيوانية، وهناك عامل ثالث مهم بالنسبة للإنسان هو ا السمية، ويميز علم الأوبئة Epidemiology بين الأمراض الفتاكة والأمراض غير الفتاكة: فقد كانت الأخيرة قديمة العهد بالإنسان وذات تاريخ طويل معه . وغالبا ما كانت متوسطة الضرر بالنسبة لعوائلها، وتصير أعداد ضحاياها ثابتة بالنتيجة، وعلى النقيض منها كانت تلك الأمراض الفتاكة التي طالما صعدت بين فترة وأخرى إلى مسرح التاريخ لتأتى على أعداد كبيرة من البشر. وكان المسئول عنها طفيليات أحدث تقيم توازنا مع معيليها، ولدينا مثال عليها من مرض قديم هو البرداء (الملاريا) malaria؛ فالجرثومة المسببة له وهى البلاسموديوم Plasmodium غاية في الخطورة، لكنها ليست مميتة بالضرورة، ولدينا مثال آخر على مرض أحدث هو الطاعون الرئوى pneumic plague . وتتراوح إماتته بين ٩٥٪ : ١٠٠٪ وكان المرضان من الأمراض البارزة في الماضي، ولكن بسبب النسبة المرتفعة للموتى من الطاعون فإن نتائجه كانت أعمق بكثير.
لدينا فيما يختص بالأمراض المعدية اعتبار رابع - مهم كذلك في تمييز بعضها عن بعض هو وسائل انتشارها وإحداها هى انتقالها مباشرةً بين إنسان وآخر، وعادة ما يتم هذا الانتقال عبر الجهاز التنفسي، وتتضمن الأمراض التي تنتشر بهذه الوسيلة النزلة الوافدة (الإنفلونزا influenza والخُنَّاق (الدفتيريا) diphtheria والحصبة measles والطاعون الرئوي، ولأمراض الجهاز التنفسى خاصية الانتقال السريع، ومن غير الممكن اجتنابها، كما أن صلاتها مديدة بالكثافة السكانية؛ لذلك كانت واسعة الانتشار في مدن العصور الوسطى. وهناك وسيلة أخرى للانتشار وتشمل الأمراض المعدية. وهي تلك الأمراض التي ترتبط بالجهاز الهضمي، وبينها الزحار dysentery والإسهال diarrhea والتيفوئيد typhoid والهيضة (الكوليرا cholera)، وكما هو شأن أمراض الجهاز التنفسي كانت الأمراض المعوية ذائعة الانتشار في عالم العصور الوسطى، وغالباً ما كانت انعكاسا لظروف اجتماعية، خصوصا حال عدم توافر الشروط الصحية لهذا وعلى النقيض من أمراض الجهاز التنفسي كان من الممكن تفادى الأمراض المعوية بسهولة. حالما كان يتم النهوض بالصحة العامة.