التحقيب التاريخي : تحليل للتجربة المغربية بقلم الطالب الباحث محمد البكري

التحقيب التاريخي والحداثة: تحليل للتجربة المغربية

مقال تاريخي بعنوان التحقيب التاريخي بقلم الطالب الباحث محمد البكري


يخلط الكثيرون بين العصر الحديث باعتباره مرحلة في إطار التحقيب التاريخي، وبين التحديث والحداثة. فهلا فصلت لنا في هذه الفوارق والاختلافات بين هاته المفاهيم؟


 لقد قيل الكثير في مسألة التحقيب، وهناك اختلافات في التحقيب بين المغاربة والمشارقة وحتى مع الأوربيين، في بدايات ونهايات كل حقبة. في المشرق يتم الدمج أحيانا بين الفترتين الحديثة والمعاصرة في مصطلح واحد هو الفترة الحديثة، وحتى يمكنني توضيح فكرة التحقيب للقارئ غير المختص، أود أن أشير إلى أن هذه الفكرة ظهرت في أوربا، في القرن الثامن عشر أو القرن التاسع عشر ، وقد ارتأى أصحابها أن عليهم التخفيف على الباحثين، ليكونوا أكثر نجاعة في عملهم، كما هو الشأن في مجالات أخرى مثل الطب، وأن يقسموا المجال الزمني الطويل إلى أقسام، على أساس وجود محطات كبرى تبرر هذا التقسيم. فهناك ما قبل القديم بأصنافه، ثم التاريخ القديم بتقسيماته، فالفترة الوسيطية، ثم الفترة الحديثة وأخيرا الفترة المعاصرة. ومصطلح المعاصرة يشير بأن الأمر يتعلق بفترة عاينها وعاصرها الباحثون في القرن التاسع عشر، فهي بمثابة ما نسميه الآن بالتاريخ الراهن. وكل فترة لها حدودها الزمنية المبنية أساسا على الأحداث والتطورات السياسية. التاريخ الحديث عند الأوربيين يبدأ بسقوط القسطنطسنية سنة 1453 لما أحدثه من تغييرات سياسية وثقافية وصدمة للأوربيين، وينتهي بالثورة الفرنسية التي تعلن بداية عهد جديد في فرنسا والعالم .



التحقيب إذن مسألة بيداغوجية، تسمح للباحث بأن يركز أكثر على فترة زمنية يمكنه دراستها، والاستفادة منها. ونحن في المغرب، نعتبر أنه بإمكاننا الرجوع في بدايات تاريخنا الحديث إلى حدث أكثر أهمية وتأثيرا عندنا من سقوط القسطنطينية وهو سقوط سبتة، وينتهي سنة 1790، وهي سنة وفاة المولى محمد بن عبد الله، وهي سنة مقاربة للثورة الفرنسية، وهذا ما جرى عليه العمل في دراساتنا الجامعية على يد اساتذتنا الرواد. ومع تطور البحث التاريخي، واتساع مجالاته، أصبح من الضروري الزيادة في تقليص المدد الزمنية، ولذلك صار لنا في الفترة الحديثة متخصصون في القرن السادس عشر أو الثامن عشر، بل واتجه الباحثون إلى المواضيع المونوغرافية التي تركز على نطاقات جغرافية ضيقة كالمدن والأقاليم، أو تقتصر على مواضيع بعينها: النقود، الزوايا، التجارة، المجاعات، أو تختص في المجال الديني أو الاقتصادي أو الفكري أو الاجتماعي. وكل هذا بهدف تسليط الضوء أكثر على المجالات المقصودة بالدراسة والبحث. الحداثة إذن هي في هذا المجال، قسم من الأقسام، ولم يعد التحقيب حاليا يفي بالغرض، والدليل أن تداخلا شديدا يوجد الآن بين الحقب، وأن الحاجة أصبحت ماسة لتحقيب يواكب الأحداث المتسارعة فظهر ما يسمى بتاريخ الراهن أو التاريخ الآني لتلبية حاجيات المستهلك إلى تفسيرات وتأويلات المؤرخ بشأن قضاياه التي يعيشها ويطرح أسئلة بشأنها، ولا يستطيع الصحافيون والمحللون السياسيون إشباع نهمه إلى معرفة أصولها التاريخية التي لا يستطيع غير المؤرخ أن يساعده على فهمها بما له من خبرة في التعامل مع المصادر وقدرة على التحليل والتأويل. أما الحداثة بمعنى إضفاء التجديد على واقع قديم ومحافظ ومتجاوز، فلا علاقة له بالأمر.




 يتقاطع مصطلح الحداثة مع مفاهيم النهضة والتقدم والعصرنة. في نظركم هل عرف المغرب تجربة الحداثة قبيل معاهدة الحماية والدخول الفعلي للمستعمر إلى البلاد أم أن الأمر يتعلق فقط ببعض الجوانب التحديثية المتمثلة في تجربة الإصلاح (أو التنظيمات في التداول التركي ـ العثماني). ومهما كان الأمر كيف تقيمون هاته التجربة؟



 لن أجيبك على هذا الكم من التساؤلات، ولكنني أثير انتباهك إلى ضرورة استحضار السياق التاريخي عند الحديث عن الحداثة. هناك دائما في التاريخ، بمعظم فتراته، قديم يقابله حديث. كل التطورات التي عرفها العالم هي قديم يقابله حديث يصبح بدوره قديما ويخلفه حديث آخر. والحداثة بهذا المعنى هي سيرورة، تكون بطيئة أحيانا، حتى يصعب تغيير الواقع، وتتسارع بتقدم المجتمعات. وفي المغرب كانت هناك ممانعة لكل هذه " البدع" المستحدثة القادمة من بلاد الكفر: حرم الفقهاء الكهرباء والتلغراف والقطار وغيرها من الاختراعات الأوربية. حاليا تسير الحداثة بسرعة قصوى لانملك معها حتى استيعاب وفهم ما يقع حولنا، ولا الاستعداد الكافي للانخراط فيها. والخلاصة، فإن كل ما ذكرت هي شكل من أشكال الحداثة في وقتها، وغلفت بأسماء ومصطلحات مثل النهضة والعصرنة والإصلاح وغيرها حسب تمثل كل جهة وكل قطر.




• لدي سؤال آخر يتعلق بمسألة التحقيب التاريخي، هل عرف العالم الإسلامي فعلا عصر الانحطاط منذ سقوط بغداد في يد هولاكو إلى غاية حملة نابوليون رغم أن مجموعة من الأعمال الفكرية قد ظهرت خلال هذه المدة الزمنية؟ علاوة على ذلك ألا يمكن أن نسقط مفهوم الانحطاط على واقعنا الحالي في ظل فشل مشاريع التنمية في العالم العربي في الوقت الذي نجحت فيه خاصة في دول جنوب شرق أسيا بما في ذلك دول ذات أغلبية مسلمة (ماليزيا وإندونيسيا) وبعض دول أمريكا الجنوبية؟

الانحطاط ليس حقبة من الحقب، وليس حالة عامة تصيب كل مناحي الحياة والقدرات الفكرية والإنتاجية والسياسية لبلد من البلدان. قد يكون الانحطاط في صلب الازدهار. مقابل الانحطاط هو التطور أو الازدهار والتقدم، المسألة نسبية، لأنه يجب أن تتم المقارنة بالآخر.التدهور الاقتصادي قد لا يقابله تدهور آخر في القيم أو الدين. المجتمعات تحافظ على قيمها ومبادئها ووسائل إنتاجها، وعاداتها، وهي أحيانا لا تحس بتأخرها إلا إذا وجدت نفسها في مواجهة مع الآخر. الصناعة مثلا أمام الصناعة، والهزيمة أمام جيش أكثر تجهيزا وتسليحا، أو تجارة أجنبية كاسحة، أو تقدم في المجالات العلمية. الوعي بالانحطاط يتم عند مواجهة من هو أكثر منا تقدما. لذلك انهزمنا أمام الاستعمار مرتين، حين انتصر علينا عسكريا، ثم حين غزانا اقتصاداوفكراولغة، وبنية تحتية وحضارة. وحين ذهب الاستعمار، حرص على أن يقيد أية انطلاقة لنا، بتمكينه للغته وثقافته و وهذا دليل على تأثير الكبير بالاستعمار وتقيد بثقافته.


تعليقات