في القرن الرابع عشر الميلادي، ظهرت "ملعبة الكفيف الزرهوني" كأحد أقدم النصوص المكتوبة بالدارجة المغربية، والتي حققها وعلق عليها الأكاديمي الراحل محمد بنشريفة. هذا النص الشعري لا يعتبر فقط إبداعًا أدبيًا بل هو وثيقة تاريخية تعكس التفاعلات السياسية والاجتماعية في بلاد المغرب و الأندلس خلال تلك الحقبة.
سياق الملعبة وأهميته التاريخية
يحكي نص "ملعبة الكفيف الزرهوني" حملة السلطان أبي الحسن المريني على تونس، وينتقد الشاعر من خلالها هذا الفعل الذي كان له تأثير كبير على تاريخ المغرب ومنطقة بلاد المغرب. الملعبة يعتبر مرآة تعكس الواقع السياسي والاجتماعي لتلك الفترة، ويبرز جوانب متعددة من الحياة اليومية والثقافية في المغرب.
تحليل النص ومضمونه
في مطلع "ملعبة الكفيف الزرهوني"، يقرأ القارئ:
"سبح مالك خواطر الأمرا.. ونواصيها كل حين وزمان / ان طعناه عطفم لنا نصرا .. وان عصيناه قضى بكل هوان"
إلى أن يكتب:
"أمولاي بالحسن خطينا الباب.. في قضيَّت سيرنا الى تونس / في غنى كنا عن الجريد والزاب .. وشلك بعْرَب فْريقية الغوبس".
وينتهي بقوله:
"فجعني صيحة النجيب بكرا .. حين رحلو ركائب الغزلان / وامست من بعدم الديار قفرا.. ما فيهم لا انس ولا عمران".
هذا النص الشعري يعد أقدم وثيقة تاريخية حول حدث بارز هز كيان بلاد المغرب، ألا وهو "الحركة" التي قام بها السلطان أبو الحسن المريني من المغرب الأقصى إلى المغرب الأدنى لتوحيد بلاد المغرب من أجل مصلحة الدنيا والدين.
القيم الأدبية واللغوية للملعبة
قصيدة "ملعبة الكفيف الزرهوني" ليست مجرد وثيقة تاريخية، بل هي أيضًا دليل على طبيعة العامية المغربية في عصر بني مرين. تُظهر القصيدة أصالة السرد القصصي والنفَس الملحمي في القريحة الشعرية العربية، مما يجعلها نموذجًا للأدب الشعبي المغربي.
ابن خلدون والملعبة
ابن خلدون الذي عاصر هذه الحقبة، حفظ هذه القصيدة وأطلق عليها اسم "الملعبة"، أشار إلى أهميتها الأدبية والتاريخية وأثنى على صاحبها. فقد كتب في مقدمته .
“وكان لهذه العصور القريبة، من فحولهم بزرهون من نواحي مكناسة، رجل يعرف بالكفيف أبدع في مذاهب هذا الفن. ومن أحسن ما علق له بمحفوظي قوله في رحلة السلطان أبي الحسن وبني مرين إلى إفريقية يصف هزيمتهم بالقيروان، ويعزيهم عنها، ويُؤَسّيهم بما وقع لغيرهم، بعد أن عيبهم على غَزاتهم إلى إفريقية”.
السياق التاريخي والاجتماعي
يرجح محقق القصيدة، محمد بنشريفة، أن كاتبها نظمها عقب الحادثة مباشرة أو خلالها، أي في منتصف القرن الثامن الهجري، في فترة شهدت انتشار الطاعون الذي أودى بحياة الكثيرين. استمد الشاعر بعض تشبيهاته من مواقع غير بعيدة عن مسقط رأسه مثل جبل تيزران، وأشار إلى مصارعة الأسود في بلاط المرينيين بفاس، مما يعكس تداخل الثقافات والتأثيرات المتبادلة بين مختلف مناطق المغرب.
لهجة جبالة وتأثير الأندلس
بالإضافة إلى لهجة جبالة العربية الواضحة في القصيدة، استعمل الشاعر كلمات أمازيغية تمثل تجاور اللهجات في المنطقة. كتب بن شريفة أن ملعبة الكفيف الزرهوني يستخدم لغة الزجل الأندلسي ويشتمل على ألفاظ معروفة في تلك اللغة، مما يشير إلى تأثر الزجال المغربي القديم بالأزجال الأندلسية واشتراك لهجتي الأندلس والمغرب في العديد من الألفاظ.
احتفظت "ملعبة الكفيف الزرهوني" بخصائص لهجة جبالة، وهي المنطقة التي تمتد في شكل هلال من طنجة إلى تازا، وتشمل العديد من المدن التاريخية مثل نكور، وبادس، وتيجساس، وتطوان، وسبتة، والقصر الصغير، وطنجة، وأصيلة، والقصر الكبير، والبصرة، واسجن، وبني تاودة، ووليلي، وفاس. انتشرت اللغة العربية في هذه المنطقة بفضل قربها من المراكز الحضرية وارتباطها بالمسالك التجارية.
الأهمية الثقافية والاجتماعية
ساهمت "ملعبة الكفيف الزرهوني" في توثيق الأحداث التاريخية وتقديم صورة دقيقة عن الحياة في بلاد المغرب خلال القرن الرابع عشر. الملعبة يُظهر التفاعل بين اللغة العربية والبربرية ويعكس تأثيرات الأندلس في الأدب المغربي. يعكس النص أيضًا مدى التعلق بالسلطان أبي الحسن المريني ومدى الإحباط من النتائج السلبية لحملته على تونس.
"ملعبة الكفيف الزرهوني" ليس مجرد نص شعري بالدارجة المغربية، بل هو سجل تاريخي يعكس التفاعل الثقافي والسياسي والاجتماعي في بلاد المغرب خلال القرن الرابع عشر. هذا النص يُظهر أصالة الأدب المغربي وارتباطه بجذوره الأندلسية، مما يجعله مرجعاً هاماً للباحثين والمهتمين بالتاريخ والأدب المغربي.
المصادر :
ملعبة الكفيف الزرهوني - حقيق محمد بن شريفة الملعبة . المطبعة الملكية الرباط 1987
مقال لحسن أوريد - الملعبة، أقدم نص بالدارجة المغربية – مجلة زمان العدد 3.