أعطت فرنسا الاستعمارية انطباعًا بأنها فهمت خصوصيات المغرب الأقصى، الدينية والثقافية والسياسية والاجتماعية. وظهرت في أعين البعض كدولة حضارية جاءت لمساعدة المغرب على تطوير بنياته الإدارية والقضائية والسياسية، مع الحفاظ على احترام الدين الإسلامي ومكانة السلطان. إلا أن الوقائع أكدت أن هذه الوعود لم تكن سوى قناع يخفي وراءه نوايا استعمارية عميقة، حيث تم الإخلال بالالتزامات والإصلاحات التي ادعتها السلطات الفرنسية، وإفراغ مضمون وثيقة الحماية من محتواها وبنودها.
السوسيولوجيا الاستعمارية: أداة للتغلغل والسيطرة
كانت فرنسا تتصارع داخليًا بين مدرستين فكريتين بشأن كيفية استعمار المغرب. المدرسة الأولى، والتي تعرف بمدرسة الجزائر، كانت تدعو إلى استعمار المغرب بأي ثمن، بينما كانت المدرسة الثانية، التي تمثل الحزب الكولونيالي المقيم في المتروبول الفرنسي، ترى أن الإخضاع السلمي للمغرب (الحماية) هو الحل الأمثل لتجنب الاصطدام الدموي مع السكان المحليين. وبغض النظر عن هذه الخلافات، عملت المدرستان معًا على توجيه الرحالة والمستكشفين إلى المغرب بهدف استكشافه وإعداد المعلومات اللازمة لتحليل مدى قبول أو رفض المجتمع المغربي للوجود الاستعماري.
من بين أهم الأدوات التي استخدمتها فرنسا لتحقيق أهدافها الاستعمارية كانت البعثات العلمية. فقد سارعت إلى تأسيس "البعثة العلمية للمغرب" في عام 1904، والتي ضمت مجموعة من الباحثين البارزين في العلوم الإنسانية والتاريخ. كان من بين هؤلاء ميشو بلير وإدموند دوتي والمركيز دوسكونزاك، الذين قاموا برحلات استكشافية إلى المغرب لجمع معلومات حول سكانه، قبائله، موارده الطبيعية، ومؤسساته السياسية والعسكرية.
الدور الثقافي والعلمي في ترسيخ الاستعمار
اهتمت فرنسا بالمغرب ككيان حضاري منذ فترة طويلة قبل استعمارها الفعلي للبلاد. انكبت على دراسة تاريخه وعاداته وتقاليده، وأصبحت تسعى إلى إيجاد مبررات شرعية لتواجدها في المغرب الأقصى. هذا الاهتمام لم يكن بريئًا، بل كان مدفوعًا بالرغبة في تبرير السيطرة الاستعمارية وفرض الهيمنة الثقافية والسياسية.
دور البعثات العلمية في الاستكشاف والتحضير للاستعمار
ارتبط علم الاجتماع في المغرب المعاصر بظاهرة التوسع الإمبريالي، حيث استغلته السلطات الاستعمارية لتسهيل احتلال المغرب. قام الجواسيس والمستكشفون الفرنسيون الذين عاشوا بين المغاربة بجمع معلومات هامة حول نقاط القوة والضعف في المجتمع المغربي، مما ساعد فرنسا على احتلال البلاد بسرعة.
غير أن تطور علم الاجتماع في المغرب لم يكن وليد الاستعمار فحسب، بل كان نتيجة لتلاقي أفكار المارشال ليوطي وسياسة علمية سنّها ألفريد لوشاتولييه، الذي أسس كرسيًا لعلم الاجتماع الإسلامي في كلية فرنسا. كان لوشاتولييه أيضًا أحد مؤسسي "البعثة العلمية للمغرب"، التي ساهمت في تطوير نظام بحث علمي استعماري متطور. وبلغ هذا النظام ذروته مع تأسيس "معهد الدراسات العليا المغربية" في عام 1920، الذي كان يهدف إلى دراسة اللغات في المغرب وتكوين المترجمين.
تأثير الأبحاث العلمية على السياسة الاستعمارية
اهتمت السلطات الاستعمارية بتكوين أطر علمية وبحثية لدعم سياساتها. من بين هؤلاء الباحثين، هنري لاووست، وليفي بروفنسال، ولويس برونو، الذين قاموا بدراسة اللغة والدين والعادات الاجتماعية في المغرب. كما نشروا أبحاثهم في مجلات علمية مثل "هيسبيريس"، وساهموا في تكوين أفواج الأطر العسكرية والإدارية الفرنسية.
النقد والاستفادة من التراث الاستعماري
على الرغم من أن الأبحاث التي قام بها هؤلاء العلماء كانت محملة بالإيديولوجيا الاستعمارية، إلا أنها لا تزال تشكل مصدرًا مهمًا لفهم جوانب مظلمة من تاريخ المغرب. حتى وإن كانت هذه الأبحاث غير محايدة وتخدم الأهداف الاستعمارية، فإنها تقدم أدوات تحليلية ونظريات كانت جديدة ومتطورة في وقتها، ويمكن الاستفادة منها لفهم تاريخ المغرب بشكل أعمق.
يتجلى في تاريخ المغرب تداخل قراءتين مختلفتين؛ الأولى تراثية إسلامية، والأخرى غربية استشراقية. وبينما تحاول القراءة التراثية الحفاظ على الهوية الإسلامية للمغرب، ترى القراءة الغربية في المنهج الاستعماري وسيلة لتطوير العلم والمعرفة. ورغم ما تحمله القراءة الغربية من عيوب، إلا أنها أصبحت اليوم جزءًا من التراث الأكاديمي الذي لا يمكن الاستغناء عنه في فهم تاريخ المغرب وعلاقاته الاجتماعية.
العجيلي التليلي، السياسة الدينية لفرنسا بالمغرب العربي خلال الحرب العالمية الثانية، منشورات كلية الآداب والفنون ولإنسانيات-منوبة ومجمع الأطرش لنشر وتوزيع الكتاب المختص.
بسكمار عبد الإله، الجاسوسية الاستعمارية من خلال رحلة المركيز دوزيكونزاك عَبـر تازة، منشور بموقع الحوار المتمدِّن، العدد 7289، بتاريخ 24 يونيو 2022، تاريخ الاطلاع 15 ماي 2023
البير عياش - المغرب والاستعمار حصيلة السيطرة الفرنسية