جَـمَع بعض سلاطين الدولة العلوية وأمرائها بين شخصية السلطان الحاكم والمثقف العالِم، وكان من أشهرهم السلطان محمد الثاني بن إسماعيل، ومحمد بن عبد الله، وولده المولى سليمان، والسلطان عبد الحفيظ بن الحسن الأول. تميز بعضهم بالاهتمام بالأدب والتاريخ وعلم الأنساب وأيام العرب، بينما أبدع آخرون في علوم الشريعة والحديث والتفسير، وبرز البعض في التأليف والكتابة في التصوف والشريعة والحديث النبوي.
اتبع المولى عبد الحفيظ الذي حكم المغرب مابين 1908 و1912 نهج السلطان سيدي محمد بن عبد الله في الاهتمام بكتب الحديث ومصادر الفقه المالكي، مثل والده الحسن الأول، ومن ذلك تأليفه لكتاب “العَذْب السَّلسبيل في حَلّ ألفاظ خليل” ونَظْمٌ في مصطلح الحديث. كما أسس مجلسًا خاصًا جمع فيه نخبة من علماء شنقيط، وأمر بطباعة الكثير من الكتب التي كانت تُسمع ولا تُرى في التفسير والحديث والفقه والأصول. وأحيا قراءة صحيح الإمام البخاري في شهر رجب، ونقلها لأول مرة إلى الرباط. كما كتب مؤلفًا نقديًا لأوضاع المغرب وأمراضه التي أدت به إلى حالة الحماية والاحتلال، وهو الكتاب الذي نقدمه للقراء في هذه المادة.
داء العطب قديم وفصول الكتاب
تعد النسخة المحققة من كتاب “داء العطب قديم” التي أعدها الأستاذ محمد الراضي كنون الحسني من دون تاريخ الطبع ولا اسم الناشر، والتي جاءت في 197 صفحة، دراسة نقدية أراد منها السلطان عبد الحفيظ بن الحسن أن تكون نقطة بحث في الأسباب التي أدت إلى ما أسماه “اضمحلال المغرب”في الفترة مابين القرن 17 و بداية القرن 20 التي انتهت بتوقيعه معاهدة الحماية 1912. ركز في كتابه على دراسة الأسباب التي أدت إلى انحدار المغرب وكيف أسهمت تهافت الأجانب في تأزيم الأوضاع.
خصص السلطان العالم فصلًا للحديث عن العواصم التاريخية الثلاث للمغرب: مراكش وفاس ومكناس، وطبائع أهلها وما لاقاه من قبائلها خلال فترة حكمه القصيرة. وتناول في فصل آخر الرسائل السلطانية لأشهر سلاطين الدولة السعدية، أحمد المنصور الذهبي (ت 1603م)، وفي فصل ثالث رصد أسباب ضعف المغرب واضمحلاله.
استند السلطان عبد الحفيظ إلى مصادر عربية لتوثيق تاريخ المغرب، واستحضر أبياتًا شعرية وقصائد تخدم مضمون كتابه، من بينها أشعار امرئ القيس ولسان الدين بن الخطيب والإمام الحسن اليوسي. كما أتحفنا بأبيات من نظمه، فقد كان يجيد الشعر كما يجيد النثر.
نقد اجتماعي لطبائع المجتمع المغربي
"من طبيعة هذا النوع المغربي حب الدنيا وبذلها في شهواتهم من غير مبالاة، خصوصًا في الأعراس والولائم، إلا القليل منهم، والبخل في صرفها في المصالح الدينية".
وأرجع سبب تهافت الكثير من الباشوات والأعيان الصغار والتجار على الحماية القنصلية الأجنبية إلى هذه الصفات.
كما رصد خللًا مجتمعيًا آخر في طبائع المغاربة، حيث يتساقطون على أهل المناصب ولو من غير جنسهم ودينهم، وينحرفون عنهم بسهولة إذا كبا بهم الدهر. وأضاف أنهم يتصفون بالإعراض عن مراتب الترقي، ويميلون للعب واللهو، ولا ينهضون لما يحرك دواعي الرجال، ويقدمون العوائد الوقتية والدنيوية على الأمور الدينية.
وأشار السلطان إلى أن الغيبة والنميمة واللمز بالسوء تنتشر بكثرة بين المغاربة، بحيث يبادلون بعضهم البعض عبارات الإكبار والفخر، وإذا ما تولوا الأدبار تكلموا في بعضهم بالسوء والتنقيص والاحتقار. وأكد أن الطمع يُفسد “جماعتهم”، ولا يكاد ينجو من هذا الداء “عمومهم وخصوصهم”.
أسباب تدهور المغرب في نظر المولى عبد الحفيظ
ربط المولى عبد الحفيظ تدهور انحطاط المغرب في عهده بمرحلة السلطان محمد المامون السعدي الذي سلم العرائش للإسبان عام 1609م، مما فتح شهية المستعمرين للتساقط على تراب المغرب. أورد العديد من الرسائل السلطانية السعدية المتبادلة بين سلاطين الدولة وملوك إسبانيا والبرتغال وإنجلترا، بهدف تعريف المغاربة بمساعدة تلك الدول الأجنبية وإهمال الأمور البحرية، مما أدى إلى البلاء.
كما ربط سوء الأوضاع في عصره بمرحلة السلطان عبد الله بن إسماعيل العلوي (ت 1757م)، الذي طال في عهده الفساد وتدخلات جيش عبيد البخاري في الشؤون السياسية، مما أدى إلى الفتن والصراعات على الحكم. استعرض السلطان عبد الحفيظ تاريخ هذه الفترة بمرارة، وتحسر على الزمن الذهبي للمولى إسماعيل الذي نُسفت جهوده على يد ورثته.
أعاد كتاب “داء العطب قديم” استحضار عدد كبير من الرسائل السلطانية بين المولى إسماعيل وبنيه فيما بين 1689م و1698م، الذين كانوا ولاة وخلفاء على أقاليم المغرب. كانت الرسائل مبثوثة في أكثر من مصدر من مصادر صدر الدولة العلوية، وأوردها المولى عبد الحفيظ بطولها وروحها، لتبيان ما عاناه المولى إسماعيل في سبيل ترسيخ نظم الدولة وتعزيز صولتها وتثبيت أقدامها في بيئة مضطربة.
يبدو أن السلطان عبد الحفيظ يسعى من خلال هذا الكتاب إلى وصل ماضي جده الأكبر بحاضره، لعله يكسب تعاطف من لم يعايشوا مرحلة 1908م–1912م ويتفهموا ظروف سقوط المغرب بيد دول الاحتلال. يربط عِلَل مغرب ما قبل الحماية بجذورها وأسبابها، ويعذر عبد الحفيظ الذي فضل أن يكون آخر سلاطين الاستقلال على أن يكون أول سلاطين زمن الاحتلال.
المصادر و المراجع
إسماعيل بلاوعلي, لماذا تجاوزتنا أوربا؟ – مجلة زمان العدد 19
الطيب بياض.. «المغرب ولج القرن 20 ببنية اقتصادية مترهلة» – مجلة زمان العدد 76
داء العطب قديم لسلطان المغرب الأسبق المولى عبد الحفيظ العلوي - تحقيق محمد الراضي كنون الحسني