شهد المغرب على مر تاريخه العديد من الأوبئة والجوائح، مما أثار نقاشات بين العلماء حول الموقف الصحيح تجاه هذه الكوارث الصحية. تراوحت الآراء بين الالتزام بالتدابير الوقائية والتسليم للقضاء والقدر. تعكس الرسائل المخطوطة المحفوظة في المكتبات العامة والخاصة هذه المناقشات الحية. نستعرض هنا أبرز مواقف العلماء المغاربة تجاه الأوبئة من خلال نماذج تاريخية مختارة.
مواقف العلماء المغاربة تجاه الأوبئة
التسليم للقضاء والقدر
الشيخ أحمد ابن عجيبة الحسني (ت 1809م): كان ابن عجيبة أحد علماء الشمال المغربي خلال فترة انتشار الطاعون في تطوان وطنجة. في رسالته "سلك الدرر في ذكر القضاء والقدر"، انتقد الفتاوى التي دعت إلى إغلاق المدينة والفرار من الوباء. أكد على الإيمان بقدر الله ورفض الاعتقاد في انتقال العدوى بشكل طبيعي. قال ابن عجيبة: "حملني عليه أني رأيت كثيرا ممن يشار إليه بالعلم والعمل قد ضل عنه وأضل، وجعل يدافع المقادير بما يقدر عليه من الأسباب والحيل". واعتبر أن اتخاذ الأسباب لا يتعارض مع التوكل على الله.
الشيخ محمد بن أحمد الحضيكي (ت 1775م): من علماء سوس البارزين، أكد الحضيكي في جوابه على سؤال حول الفرار من الطاعون أن الفرار من الوباء مخالف للشرع، مشددًا على وجوب الرضا بقضاء الله. قال الحضيكي: "لن تموت نفس حتى تستكمل أجلها ورزقها، ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها، ولا ملجأ ولا منجى إلا إلى الله". وأوضح أن الفرار من الطاعون يعد مخالفة للشرع وأمرًا بالضلال.
الوقاية والاحتراز
الفقيه محمد بن أبي القاسم الفيلالي (ت 1799م): في رسالته "فيمن حل بأرضهم طاعون"، رد الفيلالي على الفقهاء الذين اعتبروا الفرار من الطاعون ضعفًا في الإيمان. استشهد بأحاديث وأقوال الصحابة لتبرير اتخاذ التدابير الوقائية وافعالهم للعامل مع الطاعون بما في ذلك الخروج من أرض الوباء,
كحادثة عمرو بن العاص الذي نصح أصحابه بالتفرق في الشعاب والأودية عندما ظهر الطاعون في الشام سنة 17ه، والحادثة الثانية في موقف عمر بن الخطاب الذي عاد من الشام عندما وجد الطاعون بها رادا على من سأله:
أفرارا من قدر الله؟ قال: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله.
أبو الحسن علي بن عبد الله بن هيدور (ت 1413هـ): أقام مستشفى خاصًا بالمصابين بالأوبئة في تازة وكتب رسالة حول أسباب الطاعون وطرق علاجه. شدد على العزلة والنظافة الشخصية كإجراءات وقائية. في رسالته "المقالة الحكيمة في الأمراض والأوبئة"، قال: "إن الأمراض المفاجئة التي تأخذ فجأة وبغتة كثيرة، وأما الشامل منها هو المرض الوبائي، وهو الذي أردت أن أخصص ذكره في هذه المقالة".
أبو حامد العربي المشرفي (ت 1895م): في كتابه "أقوال المطاعين في الطعن والطواعين"، ناقش الأدوية الفعالة والطهارة الصحية. رغم تأكيده على بعض التدابير، رفض تقليص الاجتماعات والمواسم. قال المشرفي: "ولا زلنا نسمع باجتماع الناس في المواسم والملاحم ولا وقع بهم ما زعم حكماء الفلاسفة من الوباء في هذه المحافل السالفة".
الفقيه سيدي محمد المرير التطواني (ت 1977م): في كتابه "النعيم المقيم"، تناول تناقضات الأقوال حول العدوى والفرار من الطاعون. اقترح أن النهي عن العدوى لا يتعارض مع اتخاذ الأسباب الواقية. وذكر مرير: "أن المراد بنفي العدوى أن شيئا لا يعدي بطبعه من غير إضافة إلى الله، ردا على من يعتقد تأثير الطبيعة استقلالا، فأبطل النبي (ص) اعتقادهم بالأكل مع المجذوم ليبين أن الله هو المبلي وهو المعافي، ونهاهم عن الدنو منه ليبين لهم أن هذا من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنها تفضي إلى مسبباتها".
الحجر الصحي والمواقف الفقهية
أثناء انتشار الأوبئة، أثارت مسألة الحجر الصحي جدلًا بين الفقهاء، خاصة بالنسبة للحجاج القادمين عبر السفن. رأى بعضهم أن "الكرنتينة" – الإقامة الوقائية في الموانئ – جائزة، بينما أكد آخرون على أهمية التحفظ من العدوى. قال أحد العلماء في حكمها: "والحاصل أن الكرنتينة مما يظهر أنها جائزة كما علم مما سبق، وإن كانت من اختراع الافرنج، فلا بأس بالاستعانة برأيهم إذا اقتضى الحال، إذ برعوا في كيفية التحفظ والتحرز من الوباء وحسم مادته وحققوا قواعد الطب لقوله (ص): استعينوا على كل صناعة بأهلها".
تعكس مواقف العلماء المغاربة إرشادات قيمة حول التعامل مع الأوبئة. من خلال دراسة هذه النصوص التاريخية، يمكننا استخلاص دروس مفيدة لمواجهة الأزمات الصحية الحالية، والاستفادة من تجارب الماضي. تسهم هذه المواقف في فهم أعمق للتفاعل الإيجابي مع نوازل العصر عند حلول البلاء.
المراجع