عندما حكم الليبيون الأمازيغ مصر الفرعونية : شيشنق الأول و بداية الأسرة الثانية والعشرون
أصبح الفراعنة المهيمنون على العالم القديم خلال " عصر الدولة الحديثة "(1551 -1087 ق.م.) – الذي يعرف كذلك بعصر التوسعات الكبرى،و ب"الامبريالية" القديمة الفرعونية - مهيمن عليهم خلال مرحلة الاضمحلال الثالثة ، فلا تستثنى إلا الأسرة 26 التي اعتبرت فترة حكمها المعروفة بين المختصين باسم" العصر الصاوي" بمثابة صحوة مريض قبل الوفاة.وسيسجل حكم البطالمة (332 ق.م) بداية عصر آخر جديد له خصوصياته معلنا نهاية التاريخ الفرعوني الطويل والمميز حضاريا ،والذي امتد بين سنتي 3200-332 ق.م.
تشكلت فسيفساء سياسية بمصر الفرعونية خلال عصر الاضمحلال الثالث الممتد زمنيا بين سنتي 1087-332 ق م. والمعروف خطأ في بعض الكتابات الأوربية باسم المرحلة الانتقالية الثالثة (La Troisième période Intermédiaire) .اشترك هذا العصر مع المراحل الانتقالية السابقة الأولى والثانية بشيوع الاضطرابات والتدهور المضطرد الذي مس جل الميادين الحيوية، وسيطرت على البلاد العديد من الشعوب الأجنبية من ليبيين (الأسرتان 22 و23)ونوبيين ( الأسرة 25) وآشوريين (قضوا على النوبيين وحطموا طيبة 663 ق.م).لكنه كان آخر عصور مصر الفرعونية، إذ ستنتشر بعد دخول الإسكندر المقدوني لمصر سنة 332 ق.م حضارة جديدة، هي الحضارة الهلنستية (332- 31 ق.م).
بالنسبة للشعوب الليبية (الشمال إفريقية) التي ظهرت على مسرح الأحداث خلال هذه المرحلة،فقد تميزت علاقتها بمصر الفرعونية بالمد والجزر كما تفيد في معرفة ذلك الوثائق الأثرية لمصر الفرعونية التي يعود أقدمها للألفية الرابعة قبل الميلاد،أي للمرحلة المعروفة عند المختصين بما قبل العصر الثيني .ستتحول شعوب ليبيا (شمال إفريقيا القديم) بدورها من مسالمة ومتعاونة أو محاربة إلى مسيطرة على الأراضي الفرعونية كما سنرى.
-
الأسرة 22 تؤسس بداية الحكم الليبي:
عرفت مرحلة حكم هذه الأسرة (22 ) والأسرة التي تلتها (23) بين المختصين في تاريخ الحضارة الفرعونية باسم "المرحلة الليبية"، (بين 945 و715 ق.م). ، وتمتد على مدى حوالي قرنين ونصف .
استقر ملوك الأسرة الليبية 22 بمدينة تانيس (Tanis) بالدلتا ،ثم اتخذوها عاصمة لهم، واعتبروا أنفسهم ملوكا مصريين . وقد تسموا بأحد الأسماء التالية : شاشانق (Shesshon)، تكلوت (Takelot)، وأسركون (Osorkon).
حافظ الليبيون الحاكمون لمصر القديمة - كما ذهب لقوله الباحث المغربي المحفوظ اسمهري-على ألقاب تنظيمهم القبلي، خاصة "منصب الزعيم"؛ وهكذا أصبح " زعيم المشواش " أو " زعيم الليبو " من الألقاب التشريفية المتداولة في الوثائق الفرعونية. لم يُسْتثن الفرعون نفسه من حمل هذا اللقب، فالكتابات المنقوشة بمعبد الكرنك، والمؤرخة بالسنة الثانية من حكم الفرعون "شاشانق الأول " وصفت هذا الأخير ب" الزعيم الكبير للمشواش"، وعدد نصب تذكاري لأوسركون (Osorkon) الثاني مسؤوليات هذا الفرعون، ومنها اعتباره " سيد مصر العظيم" و" الزعيم الكبير للمشواش ". ومع مرور الوقت اختزل لقب " زعيم المشواش " في النقائش في حرف واحد " مى: Ma" ، وهو بداية كلمة " المشواش"،وبذلك ظل " زعيم المشواش" يكتب اختصارا " زعيم مى ".
ظلت الألقاب التشريفية لأفراد عائلة الزعماء الليبيين ترتكز على توضيح القرابة الدموية التي تربطهم بحاملي هذه الألقاب القبلية كما يمكن تبينه من الدراسات المهتمة بالموضوع. ويظهر من الجرد بأنها شملت الأبناء إلى الأحفاد، ذكورا وإناثا، ومنها : " إبنة الزعيم الكبير "، " إبنة إبن الزعيم"، "إبن الزعيم الكبير"، " بنات الزعيم "، "بنات إبن الزعيم ". وكتب على تمثال جنائزي (chaouabti) مؤرخ بحوالي 800 ق.م " إبن الزعيم الكبير للريبو"، وهي من التقاليد الجنائزية التي كانت مخصصة لعلية القوم.
يلاحظ الباحثون المختصون في علم الأسماء (onomastique) بأن لقب الزعيم في مثل هذه النقائش التي تخص عائلات ليبية، أو على الأقل من أصول ليبية، كان يرمز له في البداية ب (wr)، ثم عوض بكلمة جديدة هي ( ms ). وبينت بعض الدراسات اللغوية أن هذه الأخيرة كلمة أمازيغية قديمة تعني " السيد"، وبأنها ما تزال متداولة في بعض المجالات الأمازيغية، واعتمدت للدلالة على المعنى نفسه في الأمازيغية المعيارية بالمغرب. تعني لفظة "مس" ( ms ) عند آخرين "ابن"،ومن ذلك دلالات اسم الفراعنة الرعامسة "رمسيس 1 إلى 20" التي تعني :" رع مس/أي ابن إلاه الشمس رع".
بالنسبة للمعتقدات، اختار الزعماء الليبيون آمون معبود طيبة - والمهيمن على الوضع الديني من الأسرة 12 إلى نهاية الحضارة الفرعونية - كإله رسمي للدولة، كما أنهم حافظوا على بقية معبودات مصر وعلى عادة تقديم القرابين لها. واتبعوا نفس التقليد الذي كان متداولا خلال حكم الأسرة 21 والمتمثل في تنصيب أحد أفراد العائلة المالكة المستقرة بمدينة تانيس بالدلتا بمعبد آمون بالصعيد لضمان تبعية جنوب مصر لنفوذهم.
وعلى الصعيد الخارجي ،وجه الملوك الليبيون عدة حملات للسيطرة على أراضي فلسطين ، بل وصلوا إلى بيبلوس (Byblos) بلبنان الحالي. ولكن لم يكن الملوك الليبيون من الأسرة 22 ينفس قوة المؤسس،وانتهى الأمر إلى يد الأسرة الليبية 23.
الأسرة الليبية 23 وتقلص نفوذها :
استقر ملوك الأسرة الليبية و23 بدورهم بمدينة تانيس محافظين عليها كعاصمة لموقعها الاستراتجي .لقد اتسم حكم الأسرة الليبية 23 (تسمى ملوكها بنفس تسميات ملوك الأسرة 22) بالتدهور المستمر، ولذا سيحصر ملوك هذه الأسرة نفوذ مصر في إطار حدودها ، خصوصا بعدما أصبحت دولة آشور السامية الأصل -بمنطقة ما بين النهرين - في تصاعد متوال خلال عصر إمبراطوريتها الذي امتد بين سنتي 911 – 612 ق.م.وقد تسببت رغبة أمير الجنوب الانفصالية إلى عودة الفوضى ،وإلى انهيار حكم الأسرة الليبية 23.
لم تختف الألقاب التشريفية الليبية ذات الأصول القبلية من محيط البلاط الفرعوني ، وفق دراسة الباحث المغربي المشار إليه سلفا.عادت إلى الواجهة بشكل أكبر في فترة الضعف السياسي التي دامت من موت الفرعون أوسركون الثاني (حوالي 850 ق.م) إلى سقوط الحكم الليبي ونهاية الأسرة الثالثة والعشرون، بل استمر حمل هذه الألقاب إلى عهد حكم بساميتك الأول (Psammétique 1er )، حوالي 610 ق.م خلال حكم الأسرة المصرية 26، ومن تلك الألقاب: "زعيم المشواش" و " زعيم الليبو" و " زعيم بلاد الغرب"، في إشارة إلى بلاد الليبيين.
أما بخصوص إدراج الليبيين ضمن "الأقواس التسعة"، والتي توحي إلى أعداء مصر من الشعوب المجاورة لها شرقا وغربا، فالملاحظ أن الفرعون "شاشانق الأول" وُصِف في إحدى لوحاته ب "ضارب أقوام الأقواس التسعة "كما نقرأ ذلك عند الباحث المصري المشهور حسن سليم حسن. هل وَصْفَ شاشانق بهذه الصفة لأعدائه ،ومن ذلك ساكنة شمال إفريقيا لا يعدو أن يكون سوى لقبا من الألقاب الرسمية المعتادة التي يحملها الفرعون؟
ظل الفراعنة ذوو الأصول الليبية محافظين على رموز السلطة من ألقاب وألبسة ،وعلى التقاليد المصرية التي لها تاريخ عريق ، لدرجة أنه يصعب تمييزهم عن سابقيهم من المصريين. ومع ذلك، فالأصول الأجنبية لهؤلاء استدعت اسمهري لطرح السؤال التالي: ما حجم التأثيرات الليبية على نظام الحكم الفرعوني؟
كان رده بتقديم آراء الباحثين رغم تباينها، وهما على اتجاهين:
- الاتجاه الأول، يعتقد أصحابه بأن التنظيم الإداري للدولة خلال الفترة الليبية يشبه " التنظيم الفيودالي". ويستمد هذا الأخير جذوره من التنظيم القبلي الليبي، ولذلك اعتمد الحكام الجدد في إسناد المناصب الرئيسية (الجيش، الكهنة، الإدارة) على القرابة العائلية والدموية، مع ما يترتب عن ذلك من امتيازات.
-الاتجاه الثاني، فيرى أن التغيرات المؤسساتية التي عرفتها الدولة المصرية إبان حكم الليبيين، ما هي إلا استمرار لمسلسل من التحولات تعود جذورها إلى عهد الفراعنة من الرعامسة.
كيفما كان تقويمنا لهذه المرحلة، نعتقد كغيرنا من الباحثين بأن المعطيات التي أوردها المؤرخ الإغريقي "هيرودوت"(Hérodote) عند زيارته لمصر في القرن الخامس قبل الميلاد، وبخاصة ما ذكره عن المصريين من جهة ،وعن الليبيين المحاذين لهم من جهة ثانية تدل على مدى عمق التأثر والتأثير بين الطرفين< .يشير أب التاريخ إلى تشابه عادات المصرين وبعض القبائل الليبية المتاخمة لهم ( Hérodote, Histoires, IV, 168) ، وربما هؤلاء هم من سماهم الجغرافي بطليموس (2 م.) لاحقا بالليبيين- المصريين(les Liby-égyptiens).
اعتبارا لهذا، تساءل اسمهري ،ولسؤاله وجاهته وهو على النحو التالي:كيف ينظر المصريون إلى الليبيين وهم يتقاسمون معهم إرثا ثقافيا، وربما أصلا مشتركا؟
نجد الإجابة ضمنيا عند المؤرخ هيرودوت ( Hérodote, Histoires, II, 18 ) ،قال: " يعتقد أهل الحاضرتين ماريا (Maréa) وأبيس (Apis)، الذين يسكنون المناطق المتاخمة لليبيا، أنهم ليبيون وليسوا مصريين، وأنهم يتحملون بقسوة معتقدات هؤلاء ذات الصلة بالذبائح. ولكي لا يحرموا من لحوم الأبقار[التي لا يأكلها المصريون لأنهم يقدسونها] أرسلوا مبعوثين عنهم إلى الإله آمون ليبلغوه أن لا شيء مشترك يجمعهم مع المصريين، لأنهم يسكنون خارج الدلتا، وأنهم يريدون من آمون أن يرخص لهم ليأكلوا من كل شيء. لم يرخص لهم الإله بذلك، وقال إن مصر هي الأرض التي يرويها النيل... وأن المصريين هم من يشرب ماء هذا النهر. هذا هو الجواب الذي تلقاه الليبيون من آمون. فالنيل عندما يفيض لا يصل فقط إلى الدلتا، ولكن أيضا إلى أماكن من المنطقة المسماة الليبية والعربية، على مسافة مسيرة يومين انطلاقا من كلتا الضفتين [ضفتي واد النيل]، وأحيانا أكثر من ذلك وأحيانا أقل".
وقف عالم المصريات البلجيكي فردريك كولان (Frédéric Colin) كثيرا عند معطيات هذا النص، واستخلص من تحليلها أنها تعكس نظرة تبلورت في أوساط الكهنة المصريين، وتُمَيِّزُ المجموعات البشرية بناء على نوعية مصادر المياه التي تعتمدها في حياتها اليومية. فرغم أن الليبيين المجاورين لمصر يعيشون على ماء المطر، إلا أن كهنة آمون ساقوا حججا غير منطقية ليثبتوا لهؤلاء " أنتم مصريون، ولستم ليبيون، لأنكم تشربون من مياه النيل"، علما أن فيضان النيل لا يمكنها أن تصل إلى موقع المدينتين المذكورتين. يتبين من هذا النص أن المعتقد حاضر بقوة في تحديد نظرة كل طرف إلى الطرف الآخر.
نجد صدى لمرحلة الحكم الليبي لمصر في الكتاب المقدس (التوراة) الذي ذكر الليبيين وزعيمهم شيشنق (سفر الأخبار الثاني، الإصحاح IIX، الآية 3) بأسماء مختلفة ولكنها مشتقة من لفظة "ل.ب.م". سموا أحيانا ب "ليهوبيم"(Lehubim)، وأحيانا أخرى باسم "لوبيم"(Leubim) ، أو ليباهيم (Libahim) (سفر التكوين، الإصحاح X، الآية 13؛ سفر دانيال، الإصحاح IX، الآية 43) .مسمى "ليبيون" هو الذي سيتردد بشكل أكبر عند المؤلفين الإغريق الذين استفادوا من المصادر القديمة ،ومن ذلك مصادر مصر الفرعونية.
البضاوية بلكامل، محاضرات حول تاريخ شمال إفريقيا( لفائدة طلبة الإجازة والماستر والدكتوراه ) ، منذ 1988.