كان اندلاع حرب
الاستقلال الأمريكية حدثا لا مفر منه. فمنذ تعمير أمريكا الشمالية من طرف انجلترا سنة
1607. توافدت أفواج من الأوروبيين معظمهم انجليز للساحل الشرقي من القارة. و بعد
أقل من قرنين بقليل من التعمير رأى هؤلاء أن من حقهم الانفصال عن الإنجليز وتسيير
أمورهم بأنفسهم. خصوصا بعد أن خرجت انجلترا من حرب السنوات السبع(1756-1763) التي
أبلى فيها الأمريكيون البلاء الحسن , مع ذلك وجدوا انفسهم مقصيين و وسيلة لاستخلاص
الضرائب فقط في أعين الانجليز. و بهذا أعلنت الولايات الثلاث عشر الاستقلال سنة
1776 بعدما دخلت في حرب طاحنة مع انجلترا. فما الأسباب المؤدية للاعلان
الاستقلال ؟ و كيف نجحت الولايات المتحدة من الانفصال عن انجلترا؟
العوامل و الأسباب المؤدية للحرب الاستقلال
كان تطور
الاستعمار البريطاني في العالم الجديد يحمل في ثناياه الحكم الذاتي أو انفصال
المستعمرات عن الوطن الأم يوما ما، وذلك لأن التكوين الاجتماعي لأهالي المستعمرات
والبناء الاقتصادي كان أوربيا . إنجليزيا، أو بمعنى آخر كان يحمل مفاهيم الحكم
والإدارة والبرلمان والفكرة القائلة بحق الشعب في أن يتولى حكم نفسه بنفسه، ففي
الوقت الذي كانت فيه روح الاعتداد بالنفس والشعور بالمساواة مع أي مواطن انجليزي
في بريطانيا، والشعور بالمقدرة على إدارة أمور المستعمرات بكفاءة لا تقل عن كفاءة
الحكام الإنجليز، في هذا الوقت نفسه كانت فكرة السيادة المطلقة للدولة الأم على
مستعمراتها تزداد قوة لدى الملك "جورج الثالث" وحكومته، وكان من الأمور
التي يتصورها الملك بالذات فكرة انسلاخ المستعمرات عن الوطن الأم أو أن مثل هذه
الأفكار قد يتفق عنها تفكير أهل المستعمرات، وأنه لا بد من أن يستمر أهل المستعمرات
خاضعين للحكومة الأم حتى ولولم يكونوا ممثلين في برلمان لندن، وأن تستمر السيادة
البريطانية حتى ولو كرهت بعض المستعمرات ذلك.
ولكن غاب عن
الحكومة البريطانية في رأي بعض المؤرخين أن ذلك قد ينطبق على مستعمرة يتكون أهلها
من غير الأوروبيين، وإنه لا يمكن أن ينطبق على مستعمرات - انجليزية التكوين- رضعت
البان الحكم الذاتي وحكم الشعب وغذتها اداب وروائع أوروبا في القرن الثامن عشر
بأفكار تقدمية كانت إرهاصا للمبادئ التي أدت وقامت عليها الثورة الفرنسية الكبرى،
وإذا كانت تلك المشاعر قابلة للكبت لفترات طويلة، فإنه كان من المتعذر كبت المصالح
الاقتصادية المتضاربة بين أهل المستعمرات والحكومة البريطانية، وخاصة بعد أن تضخمت
متاعب الحكومة البريطانية المالية بسبب النفقات الباهضة التي تكبدتها خلال حرب
السبع سنوات، ولاتجاه الحكومة البريطانية إلى جعل المستعمرات تتحمل شطرأ ليس
بالقليل من مثل هذه الأعباء المالية، وأن تتحمل المستعمرات كذلك عبء إنشاء جيش
تابت للدفاع عن نفسها ولكل هذا يعني حق الحكومة البريطانية في أن تفرض بنفسها
الضرائب على أهل المستعمرات متجاوزة بذلك ما كان يتمتع به المجلس التمثيلي في كل
مستعمرة.
وكانت لأهل المستعمرات
وجهات نظر تخالف تلك التي تبنتها الحكومة في هذا الصدد (فرض الضرائب)، فقد كانوا
يرون أن تلك الأعباء المالية خاصة المتعلقة بجيش تابت، تجيء بعد انتهاء الحاجة
إليها تم إن قيام الحكومة بفرض الضرائب هو إلغاء المظهر جوهري من مظاهر الحكم
الذاتي الذي تمتعت بع المستعمرات منذ زمن طويل، وتمسك أهل المستعمرات بهذا المظهر
خاصة وأنهم غير ممثلين في مجلس البرلمان البريطاني ذلك المجلس الذي يوطد وجوده على
أساس المبدأ العظيم. أي لا ضرائب إلا بالتمثيل النيابي للشعب. ولكن اصطدمت تلك
الرغبات بأهداف وظروف مضادة من جانب الملك الإنجليزي "جورج الثالث"
وحكومته، فقد تشبث الملك بحقوق السيادة المطلقة على المستعمرات وأن فرض الضرائب هو
أبرز مظاهر هذه السيادة، وبالتالي أصبح الطرفان على طرفي نقيض، وكان الملك
الإنجليزي عنيدة في هذا الصدد، وكان لا يقدر المجتمع الأمريكي حق قدره وفي مقابل
ذلك تمسك الأمريكي بشخصيته وكيانه، وحق كأوربي في أن يعيش على مستوى العصر وعلى
قدم المساواة مع أخيه في الجزيرة البريطانية نفسها، كل هذا يفسر لنا إصرار الحكومة
البريطانية على فرض الضريبة بعد الضريبة رغم المقاومة العنيفة التي واجهت الحكومة
في تنفيذ تلك الضرائب.
حدث هذا عندما
حاولت الحكومة البريطانية فرض ضريبة الدمغة سنة 1765م، فقد واجهت الحكومة مقاومة
شديدة من جانب المستعمرين الذين تمسكوا بحقهم في فرض وتحديد الضرائب حيث عقد مؤتمر
في نيويورك اشتركت فيه تسع ولايات، قامت بعمل مشترك إزاء القضية بأن طالب الحكومة
البريطانية بإلغاء القانون. حقيقة ألغت الحكومة ضريبة الدمغة، ولكنها تمسكت في نفس
الوقت بحق برلمان لندن في أن يفرض الضرائب على المستعمرات، ومن تم ظلت النار
مشتعلة تحث الرماد لم تلبث أن اندلعت عندما فرضت الحكومة ضريبة على استيراد الشاي
وعندما حاولت أن تفرضها بقوة في بوسطن الأمر الذي أدى إلى مذبحة بوسطن 1770م،
وأصبح أمر إلغاء أو بقاء ضريبة الشاي يعني الصراع بين الديكتاتورية التي تمارسها
حكومة لندن وحق الشعب في أن يحكم نفسه بنفسه أو حكما ذاتيا، فإذا عمدت الحكومة إلى
الاستمرار في فرض الضريبة عمدت جماهير الشعب إلى مقاطعة الشاي الإنجليزي، بل وإلى
إلقائه في البحر، حفل الشاي في بوسطن 1773م، وعندما أغلق الملك وحكومته ميناء
بوسطن، وطلبت معونة كاثوليك كندا ضد المستعمرين الإنجليز في الولايات، اشتد سخط
هؤلاء المستعمرين وعقدوا المؤتمر الأمريكي 1774م، وأسسوأ الكونغرس الأمريكي الأول،
من مندوبي الولايات الذي انعقد في فيلادلفيا 1774م.
لم يطالب
المؤتمر بالانفصال، وإنما حذر الشعب الإنجليزي من أن حكومته تنذر بنشوب حرب طائفية
بين الكاثوليك (كندا) والبروتستنت في المستعمرات الأمريكية، وطالب المؤتمر بوقف
الأعمال التعسفية، ولكن الحكومة البريطانية استمرت في سياستها وأرسلت القوات
الجديدة إلى بوسطن ودارت المعارك، وبدأ واضحا أن طريق العودة إلى علاقات أحسن بات
مستحيلا، وفي هذه الظروف عقد المؤتمر الثاني للولايات في فيلادلفيا ماي 1775م،
وسادت فيه اتجاهات قوية نحو أن تتولى المستعمرات حكم نفسها وأن تنشئ جيشا للدفاع
عنها، وكانت هناك فرصة وإن كانت واهية للوصول إلى حل وسط عندما أرسلت المستعمرات
التماس إلى الملك "جورج الثالث" بإعادة النظر في تلك الإجراءات
التعسفية، ولكن الملك كان يضع موضوع السيادة فوق أي اعتبار آخر، وأصر على ضرب
الثورة بالقوة فكان أن أعلنت الولايات استقلالها في 4 يوليوز 1776 م .
الثورة الأمريكية و عوامل نجاحها
كانت هناك
عوامل رئيسية أدت إلى نجاح الثورة وتبات حركة الاستقلال على الصعيدين المحلي
والدولية :
كانت هناك قوى
عديدة أوروبية تنظر بعين القلق إلى خروج إنجلترا من معظم الحروب الأوروبية خلال
القرن الثامن عشر منتصرة، فكانت فرنسا قد فقدت لصالح إنجلترا معظم مستعمراتها في
العالمين الجديد والقديم وإسبانيا كانت ترى أن بريطانيا دولة امتازت على حقوقها
البحرية والتجارية ومع هذا فقد كانت اسبانيا تكره أن تؤدي الثورة الأمريكية إلى
ظهور دولة مستقلة أمريكية تكون سابقة ومثلا تحتد به المستعمرات الإسبانية، ولكن
الخطر البريطاني على مستقبل إسبانيا كان أعظم من خطر ظهور دولة أمريكية مستقلة،
خاصة وأن دخول فرنسا الحرب ضد إنجلترا كان عاملأ كل التشجيع لدخول إسبانيا، وكذلك
دخول هولندا الحرب إلى جانب الثورة الأمريكية وكل منهما كانت تكره ذلك التفوق
البريطاني الساحق في ميدان الاستعمار والمستعمرات .
كانت نداءات
الأمريكيين مسموعة في أوروبا، لأنهم كانوا يمثلون فكرة أوروبية، متجاوبة مع الفكر
الأوروبي، وكانت هناك تطلعات أوروبية قصد الحلول محل بريطانيا في الولايات
الأمريكية، خاصة من حيث التبادل التجاري وإلى جانب هذا فلا شك أن فرنسا كانت
مستعدة لأن تبدل من أبنائها وأموالها ما يخدم قضية الإنسانية المضطهدة على يد
الحكومة البريطانية، وفعلا أمدت فرنسا معونتها العسكرية للثورة الأمريكية. ولكن،
لماذا فشلت الحكومة البريطانية في إحراز نصر ولو نصر محدود ضد الثورة الأمريكية ؟
بل لماذا لقيت الهزائم العديدة ؟ بينما كانت إنجلترا قبل ذلك لا تدخل إلا حربة
رابحة وكانت أساطيلها قادرة على ضرب أعدانها، فضلا عن قطع خطوط المواصلات بين
الدول الأوربية وخاصة فرنسا ومستعمراتها ؟
والسبب الجوهري هنا هو أن قطع الأسطول البريطاني لخطوط المواصلات البحرية لم يكن في جداول التكتيك الإنجليزي العسكري إلا بعد دخول فرنسا الحرب، وإنما كانت إنجلترا في حاجة إلى جيوش كبيرة لتحارب على أرض معادية في أمريكا، ولتحارب شعبأ وليس جيشأ محدود العدد جاء من أوربا ويعتمد على ما يأتيه من وراء البحار، هذه الأوضاع أعطت للقوات الأمريكية تفوقا عسكريا، فضلا عن التفوق المعنوي الذي كان لديها لأنها كانت تدافع عن قضية عادلة أمنت بها وتناصرها فرنسا ذات الصيت الذائع.
وتوالت الانتصارات الأمريكية
وكان أخرها استسلاخ القائد الإنجليزي "كورنوالس" في بوركتون أكتوبر
1781م، في أعقاب هزيمة الأسطول الإنجليزي عند السواحل الأمريكية بفضل الفرنسيين،
أما وقد عجزت الحكومة البريطانية عن الوصول بالقوة إلى أهدافها لجأت إلى تصفية
الموقف بالتفاوض لتوقيع الصلح الذي تم في 1783 م، وبمقتضاه اعترفت حكومة بريطانيا
باستقلال الولايات المتحدة واعتبار نهر المسيسبي حدها الغربي، ولم تلبث أن تحسنت
العلاقات بين الجمهورية المستقلة الجديدة والحكومة البريطانية، ويبدو أن حكومة
الثورة في فرنسا (بعد 1789م) كانت تعتقد أن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية ستقف
إلى جانبها ضد إنجلترا بعد أن وقعت الحرب بين الطرفين 1793م اعترافا بجميل فرنسا
لما سبق أن ضحت به من أجل استقلال الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن حكومة الرئيس
"واشنتن" آثرت أن تقف على الحياد المشوب بالميل نحو بريطانيا نتيجة
للعلاقات الاقتصادية التي تربط البلدين، بل لقد عقدت الولايات المتحدة الأمريكية
معاهدة تجارية مع بريطانيا في 1794م فكان ذلك من أسباب سوء العلاقات بين فرنسا
والولايات المتحدة، ومن الأسباب أيضا حصول فرنسا على يد "نابليون" على
لويزيانا الإسبانية) مع أن الولايات المتحدة كانت تتطلع إلى استكمال وحدة أراضيها
بضم "نيو أورليانز" إليها.
ولكن الطرفين
كانا يريدان استمرار السلام والتفاهم بينهما وفعلا حصلت الولايات المتحدة
(بالشراء) على "لويزيانا " و " نيو أورليانز" ومما سهل الوصول
إلى هذا الحل أن نابليون كان يدرك عدم استطاعته الدفاع عن نیواورليانز إذا تمسك
بها، وكان التمسك بها يعني فعلا الحرب مع الولايات المتحدة الأمريكية حيث أن
نیوأرليانز هي مفتاح المسيسبي، ومن ناحية أخرى كانت العلاقات بين فرنسا وبريطانيا
تتدهور بسرعة صوب الحرب (1803م) ومن ثم كان الوصول إلى حل سلمي يرضي الولايات
المتحدة، تلك الصلات التي يمكن أن توجه ضد إنجلترا في المستقبل، وكانت الولايات
المتحدة تريد فعلا أن تستمر على الحياد بين إنجلترا وفرنسا ولكن ظروف الحصار
البحري الذي فرضت إنجلترا على السواحل الأوربية كإجراء ضد الحصار القاري الذي
أعلنه "نابليون" ضد بريطانيا سنة 1806 م، هذه الظروف أدت إلى أن تتعرض
السفن الانجليزية للسفن الأمريكية وتفتشها الأمر الذي رفضه الأمريكيون، ولما تمادی
الانجليز في ذلك وقعت الحرب بين إنجلترا والولايات المتحدة في 1812م واستمرت بعض
الوقت حتى وقعت اتفاقية غشت 1814م التي أعادت الأمور إلى ما كانت عليه سلفة، خاصة
وأن ظروف أوربا قد تغيرت بسقوط إمبراطورية نابليون.
عبد الفتاح حسن ابوعليه-تاريخ الامريكيتين والتكوين السياسي للولايات المتحدة الامريكية- الطبعة الأولى-دار المريخ للنشر
موجز التاريخ الأمريكي - فرانسيس ويتني و مجموعة من المؤلفين، الطبعة الأولى
نظام الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية - لاري إلويتز