يمثل القرن الخامس عشر للميلاد قرن أوج وازدهار التصوف في المغرب، وهو معلم فاصل بين الصوفية و التصوف بالمغرب في القرون السابقة وما سيصير عليه في القرون اللاحقة، تتجلى هذه الصيرورة في مرجعية موحدة صوفية )الطريقة الشاذلية( ، وعرف التصوف المغربي جملة من الأحداث والوقائع انتظمت في ثلاث حلقات أساسية : حلقة الشاذلية العبادية، حلقة الشاذلية الجزولية، حلقة الشاذلية الزروقية.
1- الشاذلية العبادية: الاختيار الحاسم
انبثقت الحركة العبادية )نسبة لإبن عباد) في ظل انقسام الحركة الصوفية خلال النصف الثاني من القرن الرابع عشر ،هذا الأخير أفرز لنا تيارين : تيار الشمال - تيار الجنوب.
تيار الشمال : هو منطلق الحركة الصوفية، تمركز في حواضر كبرى مثل : فاس، مكناس، سلا، من أسسه الابتعاد عن التكتل وتشكيل الطوائف وإقامة الزوايا واتخاذ الشعارات والاجتماع في أوقات مخصصة، إضافة إلى الظهور بالتوكل والدعوة إلى الاعتصام بالجماعة وكذا الترغيب في طاعة أولي الأمر، وتبلور - التيار- في تغر سلا في عهد السلطان أبي عنان ، تزعمه الشيخ أحمد بن عاشر الأندلسي ، ويعتبر الشيخ ابن عباد من كبار تلامذته حيث لازمه وأخذ عنه عدة سنين قبل أن يستقل عنه ويؤسس طريقة لنفسه.
تيار الجنوب : انتشر في الجنوب قوامه الطوائف الست المشهورة بالزوايا الساحلية الكبرى (أزمور- تيط- أسفي) ،كانت تتنافس فيما بينها في تكثير الجموع والمريدين.
تزامن ازدهار الحركة العبادية مع بداية الوهن والضعف الذي لحق مختلف هياكل الدولة المرينية، حيث ازدادت الحاجة مع ذلك إلى لـم شمل الأمة والاستعانة بالتصوف بغية تأطير التوجيه الديني. فاختار ابن عباد لنفسه الطريقة الشاذلية علاوة على برنامج إصلاحي سعياً منه إلى تجديد الطريقة ومنفعة الرعية، واعتمد في الاختيار الشاذلي على مختلف كتبالتصوف التي توف رت عليها رفوف خزينة الدولة المرينية .
ومما ساعد على انتشار الحركة العبادية حرص الدولة على رعايتها من خلال تولي صاحبها منصب الخطابة في جامع القرويين مدة خمسة عشر سنة، وقدم ابن عباد الطريقة الشاذلية على أنها خاتمة الطرق الصوفية لا على أحسنها وأفضلها، وصرح بأن كتب ابن عطا الله) 1309م( غنية عن باقي الكتب الأخرى، وفي ذلك تأكيد ضمني على أن الطريقة العبادية هي الناسخة والخاتمة للطرق الصوفية.
يكمن سر تفوق الاختيار العبادي الشاذلي في الوحدة المتضمنة بعد التفرقة )أي بعد 1358م( المتجلية في تنافس أرباب الرئاسة الدنيوية من الملوك والوزراء، وكبار الحواضر والقبائل إضافة إلى نزاع أرباب الرئاسة الدينية من مشايخ الطوائف والزوايا، وعليه فيكون الاختيار العبادي جوهر الحركة الص وفية واختيار حاسم اتجاه الوحدة المناقضة للفرقة.
جمع ابن عباد في دعوته بين نشر الشاذلية والإصلاح حيث رسخ في أذهان معاصريه أن أرباب الزوايا ومشايخ الطرق معقد الآمال والملجأ عند الحاجات والملمات، كما اعتقد أن الإصلاح عليه أن يبدأ من الدين الذي تستقيم به الأحوال، وفي هذا السياق فقد نصح السلطان عبد العزيز) 1372م( بإزالة مظالم الرتب التي أحدثت بطرق المسافرين وقطع السبل عن المساكن، ومعاقبة العمال والولاة الذين أحدثواْ المظالم والمغارم الضارة بالرعية .
اعتبر الاصلاح العلمي بشكل عام وواضح مقصد الإصلاح لدى ابن عباد الذي اتهم معاصريه بالجهل والقصور في تبليغ تعاليم الدين والتهمم بجمع المال وإشباع الغرور وحب الظهور على الأقران وتحقيق الوجهة عند الحكام وأرباب الأموال، إضافة إلى ضياع الوقت في قضايا لا فائدة من و رائها والانصراف في من يزيل الغشاوة التي على أعينهم قبل السؤال عن تفريطهم في مسؤولية الإصلاح التي في أعناقهم، وعليه فيكون ابن عباد وضع برنامج إصلاحي يرتكز على تخليص التوحيد من الدعوى والشكر لله في السراء )تعظيم المنة( وفي الضراء )حسن الظن(، ومن مميزات هذه الطريقة المجابهة بالله لا بالنفس من غير الانتساب إلى طائفة، مشيخة، زاوية، ثم إنها هداية إلى الوسطية والاعتدال وحب التيسير ونبذ التعسير
حرص ابن عباد في برنامجه إشراكه السلطة السياسية باعتبارها وسيلة تطبيقه وتحقيقه، حيث شدد على بداية الإصلاح من الحاضرة المرينية فاس ومن منبر جامع القرويين، ومن ذلك توليه الإمامة والخطابة في عهد السلطان أبي العباسأحمد 1393-1396 بجامع القرويين كما سبقت الإشارة لذلك ،أوكل بمهمة إصلاح الشأن الديني في وقته.
خلف ابن عباد بعد وفاته (1390م) ثلة من التلاميذ والأتباع استقرت طريقته لديهم واستمرت حركته الإصلاحية فيهم ، ومنهم صاحبه وصفيه الشيخ يحيى السراج الرندي( 1400م) حامل لواء الحديث في زمانه، و محمد بن السكاك قاضي الجماعة بفاس )صاحب كتاب نصح ملوك الإسلام بالتعريف بما يجب عليهم من حقوق آل البيت الكريم( إضافة إلى العديد من عامة وخاصة الحاضرة المرينية ومن أرباب التصوف، ومن تراث ابن عباد كتاب التنبيه.
2- الشاذلية الجزولية : توحيد تيار الجنوب
تبتدئ سيرة الشيخ محمد بن سليمان الجزولي مع رحلته العلمية إلى الحاضرة المرينية فاس في العقود الأولى من القرن الخامس عشر للميلاد، أما حركته فقد انطلقت عقب رحلته الحجازية، وتصادف تردده على فاس مع وجود بعض تلاميذة الشيخ ابن عباد أي هيمنة الشاذلية العبادية على الحياة الصوفية بالعاصمة المرينية، مكنه هذا التردد من تأليف كتاب ”دلائل الخيرات“ من خزانة جامع القرويين ، وانتسب الجزولي إلى الشاذلية المغربية عن طريق شيخه أبي عبد الله أمغار الصغير رئيس رباط تيط بداية القرن الخامس عشر للميلاد كما انتسب أيضاً إلى الشاذلية المشرقية عن طريق شيخه عبد العزيز العجمي الذي أخد منه بجامع الأزهر بالقاهرة. )أخد تعاليم الشاذلية المغربية قبل الشاذلية المشرقية( .
الحركة الجزولية على نقيض الحركة العبادية في عدة قضايا مثل مسألة الدعوى التي اعتبرها الشيخ ابن عباد رأس الخطايا والمصائب، أما الشيخ الجزولي فقد أطلق لسانه من غير توقف يظهر ذلك من خلال سيرته الحافلة بالدعاوى العريضة، كما أضاف الخضرية إلى الشاذلية، وذلك بجعل الأولى فوق الثانية لأنه ذهب مذهب القائلين بنوءة الخضر وأثبت له الرسالة، حيث قال أنه أرسل إلى قوم في البحر يقال لهم بنو كنانة، ونسب الجزولي إلى الخضر الأمر بصرف أصحابه في البلدان لجلب الناس إليه أي بمعنى أخر دعوة الناس للانخراط في حزبه باعتباره صاحب النبي الخضر لا باعتباره من شيعة الإمام الشاذلي، إضافة إلى تأكيده أنه تلقى الإذن منه في قص شعر التائب، وتعتبر الخضرية ركن من أركان الشاذلية الجزولية .
.3الشاذلية الزروقية : صوب الوحدة الشاملة
نشأت الشاذلية الزروقية - نسبة لأحمد زروق 1442/1493م -، في كنف الشاذلية العبادية بفاس)كان زروق محباً لإبن عباد)، تمثل 1466م سنة ميلاد الحركة الزروقية من خلال تقديم أحمد زروق أول شرح على الحكم العطائية ،وعليه فقد ابتدأت الحركة مع نهاية الدولة المرينية التي تصادف مرحلة اضطهاد العبادية (ظلت وفية للمرينين(، وانتسب أحمد زروق إلى الشيخ أحمد بن عقبة الحضرمي اليمني( 1490م) الذي اعتبره الواسطة الرئيسية والسند في الشاذلية.
اقتدى أحمد زروق بالشيخ ابن عباد في مشروعه الإصلاحي من خلال التنسيق مع السلطة السياسية، حيث أيدالجوطي في كتاب "النصيحة الكافية لمن خصه الله بالعافية" سنة 1472م )ألفه بالقاهرة(، ولدى رجوعه للمغرب وجدالحكم قد انتقل من الجوطي إلى محمد الوطاسي، وسبب الكتاب نفو رً ا بينه وبين الوطاسيين فحاول استدراك الأمر فعمد إلى تأليف كتاب" الصبغة الدينية المفيدة للدولة الوطاسية" سنة 1477م )ألفه بفاس( لكن لم يفلح في ذلك.
لعلى أهم ما ميز المشروع الإصلاحي للشيخ زروق إدماج الجزولية السائدة بالمغرب آنذاك والوصل بين العبادية بإرثها والجزولية باتجاهيها المهد وي والخضري والزروقية التي أبدعها، فمن الناحية العملية نسج علاقات مع أشياخ وقته ،حيث لقي بالشيخ السهلي )كاتبه عدة مرات( ولقي عدداً من أتباع المغيطي، اعتبرت هذه الأخيرة بمثابة الاتصالات الأ ولى بين أحمد زروق وأتباع الجزولي، ومن مزايا الطريقة أيضاً أنها عالجت إشكالية الألفية وفق المنهج الصوفي بعيداً عن دوغمائية التوجه العبادي، وبدعية التوجه الجزولي.
نجحت الرزوقية في استقطاب العلماء مع فشل الجزولية والعبادية في ذلك، حيث ق ربت بين الفقهاء والصوفية اعتماداً على التوفيق بين الشريعة واحقيقة في طل الحركة، والتكامل بين الفقه والتصوف من خلال تيسير مهمة الانفتاح على التصوف والدفع إلى الإقبال عليه والانخراط في سلكه، كما شددت ) الزروقية( في محاربة الغلو المحيط بقضية التوبة المشروطة في أولية الطريق ،فهونت من تهويل الجزولية، حيث أفرد زر وق كتاب" إعانة المتوجه المسكين على طريق الفتح والتمكين" سنة 1478م، وأكدت على أن التوبة ليست من فعل الخلق ولا يجدي فيها لا تقصيص ولا وليمة وإنما من فعل الحق.
مع وفاة الشيخ أحمد زروق سنة 1493م اكتملت صفحة القرن الخامس عشر للميلاد واكتملت بذلك حلقات مسلسل الحركة الصوفية، واضعة بذلك أول لبنة من لبنات الوحدة بين الزروقية والجزولية على المستوى المذهبي ( الشاذلي) وعلى مستوى الرجال والأسانيد، وذلك في عهد الطبقة الأولى من أتباع الشيخين الجزولي وزروق، وعليه فقد تتلمذ الشيخ عبد الله الخياط الرفاعي الزرهوني) 1532م)خريج البيت الزروقي( على يد الشيخ بن عمر أجانا من أصحاب الجزولي، وتتلمذ الشيخ عمر الخطاب 1536م على يد الشيخ عبد العزيز التباع )جزولي( ،واعتبر هذا التتلمذ تكريس لبداية تحول الزروقية عن النهج العبادي الزاهد في الطائفية والمشيخة والزاوية وأخذها بالنهج الجزولي القائم على كل ذلك، هذا التحول والجمع بين السندين الزروقي والجزولي في الشاذلية تكريس أيض اً لبداية الهيمنة التي ستتحقق للشاذلية بالمغرب عن طريق الشيخين الجزولي وزروق في بداية القرن السادس.
محمد القبلي, تاريخ المغرب ننتحيين و تركيب, طبعة 2011, المعهد الملكي للبحث في التاريخ , الرباط.