يعتبر علم التاريخ من العلوم التي عرفت تطورا كبيرا مع تطوُّر الحياة البشريّة وتطور المعارف الإنسانيّة، مثله مثل باقي العلوم الأخرى. فمع مطلع القرن 19 م وبفعل التحولات الاقتصادية والاجتماعية والفكرية الكبرى التي شهدها العالم وأوروبا على وجه الخصوص، اندفع الكثير من المؤرخين وفلاسفة التاريخ إلى التفكير في مفهوم التاريخ، فظهرت تفاسير جديدة للتاريخ كما ظهرت مدارس و تيارات متعددة متأثرة بما شهدته "القارة العجوز" من تحولات كبرى من عصر الإصلاح الديني )القرن الخامس عشر( وعصر النهضة )القرن السابع عشر إلى عصر التنوير(القرن الثامن عشر) وعصر الوضعية والعلم والصناعة العصرية وعصر أزمة الإنسان والعلوم الإنسانية والعولمة وما بعد الحداثة في القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين. وقد تنبه ماكس فيبر في مباحثه حول "نظرية العلم" لخاصية التجدد المستمر هذه التي تميز عمل المؤرخين. يقول: "هناك علوم ك تِبَ لها أن تظل فتية على الدوام. هذا حال التاريخ وكل المعارف التي تطرح عليها حركة الحضارة اللامتناهية مشاكل جديدة". يحصل هذا التجدد مع تجدد الأجيال وتجدد رهانات الحاضر. تجدد أو "إعادة تركيب" كما عبر عن ذلك المؤرخان الفرنسيان جون بوتي ودومنييك جوليا.
وفي كل هذه المحطات التاريخية عرفت أوروبا والغرب بشكل عام عدة مدارس، تجاو زت نمط الكتابة التاريخية الكلاسيكية باعتماد أنماط جديدة سواء في اختيار المواضيع والمناهج والأدوات، نذكر من المدرسة الوضعية (الوضعانية) أحد المدارس والتيارات التاريخية .
مدرسة السوربوت الفرنسية، أو ما يسمى عادة بالمدرسة أحد المدارس والتيارات التاريخية، ظهرت هذه المدرسة في ظل الحركات القومية التي شهدتها أوروبا خلال القرن 19 م، وخاصة في إطار الجمهورية الفرنسية الثالثة وعزمها على استعادة منطقة الألزاس واللورين وتدعيم برنامجها الاستعماري. وقد كان انهزام فرنسا أمام الألمان كارثة حقيقية أمام المثقفين الفرنسيين الذين كانوا يكنون إعجابا منقطع النظير لألمانيا ولثقافتها المبدعة. وسادَ الشعور بضرورة تدعيم الجمهورية الفرنسية الثالثة، واع ت بر التاريخ أداة ناجعة لتحقيق هذه الأهداف. وقد أصبح التاريخ عام 1818 مادة ، إجبارية في التعليم الثانوي، وفي عام 1880 ، أصبح يدرس في الابتدائي إلى الباكالوريا، أما بداية 1902 فأصبح تاريخ فرنسا يدرس في التعليم الثانوي، وكان المؤرخ آرنست لافيس ي لقب ب "المعلم القومي". وقد تدعمت في فرنسا وألمانيا فكرة ضرورة صيانة التراث التاريخي. وأصبح المؤرخ الوضعي يولي اهتماما كب يرا للوثيقة المكتوبة، وأصبح المؤرخ الوضعيُّ يركز في كتابته للتاريخ على أربع مراحل:
- -مرحلة تجميع الوثائق.
- -مرحلة نقد هذه الوثائق.
- -مرحلة ضبط الأحداث.
- -مرحلة سرد هذه الأحداث.
مع الاهتمام بكتابة الهوامش والحواشي أسفل الصفحات أو في نهاية ورقتة التاريخية، ويستخدم الرسم البياني والإحصائي في إثبات وجهات نظره، وهو يرى أن يتحرّر المؤرخ من انتماءاته السياسية والثقافية والدينية والقومية وما شابه.
ومن قصور هذه المدرسة رفضهم النتائج الفلسفية التي تتجاوز النظريات العلمية الطبيعية التجريبية. كما أنهم سقطوا في التحزّب للقومية. ومن أشهر المؤرخين الوضعيين أرنست لافيس، ليوبولد فان رانكه، أوغست كونت.
ومع مطلع القرن العشرين، أصبحت المدرسة أحد المدارس والتيارات التاريخية أو الوثائقية عرضة للكثير من الانتقادات الشديدة من قبل جيل جديد من المؤرخين الشباب في فرنسا على وجه الخصوص أمثال" لوسيان فيفر و مارك بلوك" اللذين نفخا روحا جديدة في الدراسات التاريخية حيث استغلا مجلة التركيب لتوجيه انتقادات شديدة للوضعيين الذين ركز وا في كتابة التاريخ على الوثيقة التاريخية بمفهومها الضيق و ناد وا بضرورة انفتاح الدراسات التاريخية على العلوم الأخرى. و في هذا الصدد قال المؤرخ الفرنسي "لوسيان فيفر" إنه سيساهم في كتابة التاريخ اللغوي و الأدبيا ولجغرافي و القانون والطبيب عالم الأجناس و خبير منطق العلوم إلى غير ذلك. و مع انفتاح التاريخ على العلوم الأخرى سواء الإنسانية منها أو الدقيقة تمكن المؤرخ ون من الت ز ود بأدوات بحث جديدة جعلتهم يعيدون النظر في كثير من الوقائع التاريخية و يطرحون أسئلة جديدة و مشكلات التاريخية، لم تكن إلى عهد قريب في متناول المشتغل في التاريخ. لقد نظر الثنائي "لوسيان فيفر و مارك بلوك" إلى الكتابة التاريخية على أنها طرح للمشكلات الكبرى للإنسان في سياق الزمن التاريخي الطويل، و ذلك بهدف إخراج الكتابة التاريخية من نمطية الحدث السياسي و الوقائع الضيقة، حيث لم يهتم المؤرخون سوى بكل ما له ارتباط بالأحداث العسكرية من حروب ومعارك و تواريخ قيام الدول و سقوطها.
حبيدة محمد، المدارس التاريخية من المنهج إلى التناهج، الرباط، دار الأمان،
التيمومي الهادي، المدارس التاريخية الحديثة، بيروت، دار التنوير للطبع، 2013
سعاد زبيطة،محاضرات في مدخل لدراسة التاريخ بكلية الأداب و العلوم الإنسانية، جامعة ابن طفيل، القنيطرة ، المغرب