في ظل الأحداث العالمية الكبرى التي شهدها القرن العشرين، كانت قضية الصحراء المغربية الساقية الحمراء ووادي الذهب واحدة من القضايا الأكثر أهمية وتعقيدًا في المنطقة العربية وشمال أفريقيا. منذ أن خضع المغرب للاستعمار في عام 1912، تم تقسيمه بين قوتين استعماريتين هما فرنسا وإسبانيا، ما جعل استرجاع السيادة الكاملة تحديًا كبيرًا أمام الدولة المغربية. وبينما استعاد المغرب استقلاله في أجزاء من أراضيه عام 1956، ظلت المناطق الصحراوية الجنوبية تحت السيطرة الإسبانية، مما شكل عقبة أمام تحقيق الوحدة الترابية.
التحديات الاستعمارية وبداية الكفاح:
بعد الاستقلال الجزئي للمغرب، لم تتوقف الجهود المغربية لتحرير المناطق المتبقية، وخاصة الصحراء. في عام 1957، بدأ جيش التحرير المغربي في الجنوب حملة لتحرير الصحراء من الاحتلال الإسباني. هذه الحملة كانت تتسم بالصعوبة نتيجة تداخل المصالح الدولية ووجود قوات استعمارية مدعومة بمعدات حديثة.
المخابرات الفرنسية آنذاك قدرت أن جيش التحرير المغربي في الجنوب ضم حوالي ثلاثة آلاف مقاتل. هؤلاء الأبطال كانوا يعملون على تحرير الأراضي بشجاعة، ونجحوا في استعادة السيطرة على مناطق مهمة مثل السمارة وبئر أنزران. ولكن هذه الانتصارات لم تكن كافية لإنهاء الصراع، حيث استمرت المقاومة الإسبانية والفرنسية لمحاولات الاستقلال.
الدور الفرنسي والإسباني في النزاع الصحراوي:
كانت فرنسا تسعى إلى توسيع نفوذها في المغرب من خلال السيطرة على المناطق الصحراوية في الجنوب، حيث حاولت خلق مشروع موريتانيا الكبرى لضم الساقية الحمراء ووادي الذهب من المغرب. نزلت القوات الفرنسية في مصب نهر السنغال في القرن السابع عشر، واستمرت في التوغل شمالًا في محاولاتها لمحاصرة المغرب من الجنوب.
عندما قدم المغرب طلبًا لتصفية الاستعمار في أقاليمه الجنوبية، واجهت إسبانيا هذا الطلب بمقاومة شرسة. وضعت خطة لإرجاع الصحراء للمغرب على مدى 25 سنة، وكانت هذه المناطق مصدرًا لحساسية كبيرة لدى المغاربة، مما دفعهم إلى تبني اتجاه سلمي ودبلوماسي لاستعادتها.
مطالب المغرب باسترجاع وادي الذهب: بدايات النضال الوطني
بدأ المغرب في إظهار اهتمامه بوادي الذهب وما وراءها في وقت مبكر، حيث طرح الزعيم الوطني علال الفاسي مسألة موريتانيا والصحراء في الأوساط السياسية، مما وضع القيادة المغربية في اختبار حقيقي. لم يكن هذا مجرد تحدٍ سياسي، بل كان امتحانًا لعزيمة الشعب المغربي وحكومته، الذين كانوا يرون في هذه المناطق جزءًا لا يتجزأ من التراب الوطني.
ثم جاء الخطاب التاريخي الذي ألقاه الملك محمد الخامس في محاميد الغزلان عام 1958، ليعزز هذا الاهتمام ويؤكد أن استرجاع وادي الذهب كان في صميم القضايا الوطنية. في ذلك الخطاب، عبّر الملك بشكل واضح عن أهمية هذه المنطقة، ليس فقط من منظور جغرافي، بل كجزء من الهوية المغربية التاريخية. كان هذا الخطاب بمثابة دعوة للاستمرار في النضال من أجل استرجاع الأراضي المحتلة.
وفي هذا السياق، بدأ المغرب الدخول في مفاوضات مع الحكومة الإسبانية، تحت قيادة عبد الله إبراهيم، بين عامي 1958 و1960. كانت تلك المفاوضات صعبة ومعقدة، إذ كانت إسبانيا تحاول بشتى الطرق فرض سيطرتها على المنطقة. لكن المغرب، بقيادة حكيمة وإرادة شعبية قوية، استمر في الكفاح، مؤمنًا بأن استرجاع وادي الذهب مسألة وقت، وأن النصر لا يأتي إلا بالصبر والمثابرة.
الصراع الإقليمي وموريتانيا:
في بداية الستينات، أصبح الوضع أكثر تعقيدًا عندما أعلنت موريتانيا استقلالها في عام 1960، مما أضاف بُعدًا جديدًا للصراع حول الصحراء. هذا الاستقلال أوجد وضعًا سياسيًا جديدًا في المنطقة، حيث بدأت موريتانيا في التطلع إلى تثبيت نفسها كدولة مستقلة، ما أدى إلى توتر العلاقات مع المغرب. وبالتزامن مع ذلك، اكتشاف فوسفات بوكراع في عام 1964 زاد من قيمة الصحراء المغربية من الناحية الاقتصادية، مما جعل إسبانيا أكثر تمسكًا بموقفها.
الجنرال فرانكو، الذي كان يحكم إسبانيا في تلك الفترة، لم يكن على استعداد للتخلي عن هذه المناطق بسهولة. في الواقع، سعت إسبانيا إلى إقامة دويلة تابعة لها في الساقية الحمراء ووادي الذهب، وذلك لضمان استمرار نفوذها في المنطقة. كانت إسبانيا تستخدم كل الوسائل الممكنة، من المماطلة في المفاوضات إلى دعم الحركات الانفصالية، لتعطيل أي جهود مغربية لاسترجاع الأراضي.
في هذه الأثناء، كان المغرب يواجه مقاومة قوية من الجزائر بقيادة هواري بومدين، الذي كان يدعم الحركة الانفصالية في الصحراء المغربية. الجزائر كانت ترى في دعم البوليساريو وسيلة للضغط على المغرب وإضعافه على المستوى الإقليمي. هذا الدعم الجزائري كان يهدف إلى منع المغرب من استكمال وحدته الترابية، مما أدى إلى تصاعد التوترات بين البلدين.
في ظل هذه التحديات، لم يكن أمام المغرب خيار سوى الاستمرار في النضال، مستخدمًا كل الوسائل الدبلوماسية والسياسية الممكنة. كانت تلك فترة صعبة من الصراع المستمر، حيث كان المغرب يقوم التصدي للانفصاليين المدعومين من الجزائر وليبيا. ورغم كل هذه الصعوبات، ظل المغرب متمسكًا بحقه التاريخي في استرجاع وادي الذهب، متسلحًا بإرادة شعبه وشرعية مطالبه.
التحولات الكبرى واسترجاع وادي الذهب:
في السبعينيات، بدأت الأمور تتغير. التحولات السياسية في إسبانيا بعد وفاة الجنرال فرانكو، بالإضافة إلى الضغوط الدولية المتزايدة، دفعت إلى إعادة النظر في وضع الصحراء. في عام 1979، أعلنت موريتانيا انسحابها من الصحراء، مما فتح الباب أمام المغرب لاستعادة وادي الذهب.
ورغم الاعتراف الموريتاني بحق الصحراء في تقرير المصير، رفض المغرب هذه الخطوة واعتبرها لاغية. هذا الموقف المغربي كان يعكس تصميمًا قويًا على استعادة جميع أراضيه، وعدم السماح لأي قوة خارجية بفرض إرادتها على الشعب المغربي.
استرجاع وادي الذهب وترسيخ الوحدة الوطنية:
في 14 أغسطس 1979، كان المغرب على موعد مع تحقيق نصر دبلوماسي وعسكري كبير، حيث تم إعلان استرجاع وادي الذهب إلى السيادة المغربية. هذا الحدث لم يكن مجرد استعادة للأراضي، بل كان تتويجًا لعقود من الكفاح والمقاومة. بعد الاسترجاع، بدأ المغرب في تنفيذ خطة طموحة لتعزيز وجوده في المنطقة.
بدأت المملكة في بناء البنية التحتية وتطوير المنطقة اقتصاديًا، بما في ذلك بناء الطرق والمنشآت الصحية والتعليمية. كما تم إنشاء الجدار الأمني العازل للحد من هجمات البوليساريو، مما ساعد في ترسيخ الأمن والاستقرار في المنطقة.
التحديات المعاصرة ومستقبل الصحراء المغربية:
رغم استعادة المغرب لوادي الذهب، إلا أن الصراع حول الصحراء لم ينته. ما زالت بعض القوى الدولية تدعم حركة البوليساريو التي تطالب باستقلال الصحراء. ومع ذلك، فإن المغرب يتمتع بدعم دولي متزايد لموقفه الرافض لتجزئة أراضيه، ويواصل العمل على تحسين أوضاع سكان الصحراء من خلال التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
النزاع حول الصحراء المغربية يشكل تحديًا كبيرًا، لكنه في الوقت نفسه يبرز تصميم المغرب على الدفاع عن سيادته ووحدته الترابية. المملكة المغربية تستمر في تعزيز علاقاتها الدولية، والاستفادة من الدعم الدولي لمواقفها، وذلك من أجل تحقيق سلام دائم وتنمية مستدامة في المنطقة.
الصراع على الصحراء المغربية ووادي الذهب يمثل جزءًا مهمًا من تاريخ المغرب المعاصر. من خلال الجهود الدبلوماسية والعسكرية المستمرة، استطاع المغرب تحقيق الوحدة الترابية واستعادة سيادته على كامل أراضيه. ورغم التحديات التي ما زالت قائمة، فإن تصميم المغرب على الدفاع عن حقوقه التاريخية والجغرافية يظل ثابتًا وقويًا.
المصادر والمراجع :
اليازغي، محمد، الصحراء هويتنا، حوار وتأليف محمد ججيلي، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2018.