اشتهر الفينيقيون ضمن بلاد كنعان "بلاد الكنعانيين" أو "سوريا الكبرى"، الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط المعروف في تاريخ الفينيقيين باسم "الساحل الفينيقي " الذي احتل موقعا استراتجيا بين قارات العالم القديمة ( آسيا- ليبيا ، وأوربا ) ،ولا ينفرج إلا في الشمال والجنوب، ثم في بعض الجيوب الصغيرة المتناثرة في الوسط مثل سهل عكار شمال طرابلس ، وسهلي صيدا وصور.وكان ساحل بلاد الفينيقيين كنعان مهيأ ليشكل صلة وصل بين العالم الإيجي في بلاد الإغريق من جهة، وبين الحضارتين المائيتين الأصليتين الحضارة المصرية الفرعونية و حضارة بلاد الرافدين من جهة ثانية،إذ استغله الفينيقيون لإقامة محطات صالحة للملاحة البحرية ، كانت سببا في انتشارهم عبر العالم الخارجي .
إن الدارس لتاريخ تلك المحطات/ المرافئ ، سيلاحظ بأنها لم تتمتع بحكم سياسي موحد كما حصل في حضارة مصر و حضارة بلاد الرافدين ، ومع ذلك كان لها كيانها الخاص الذي ظل قائم الذات حتى في ظل السيطرة الفرعونية والأشورية ، ويرجع ذلك إلى موقعها الجغرافي المهم الذي كان له دور كبير في تأسيس الكنعانيين لمدنهم وفي اختيار مواقعها مراعين عدة شروط ، ذكر منه المتخصصون ما يلي :
- تكون عند رؤوس البحر،وفوق مرتفع صخري ،
- تتوفر على مرفأ محمى ،له شاطئ يتميز بسهولة رسو السفن فيه،
- تكون قريبة من الجزر، حتى إذا وقع غزو ، فروا إليها واحتموا بها ،
- وجود مياه عذبة صالحة للشرب ،
- المسافة بين المرافئ محددة وقريبة، وذلك لتواصل السفن سيرها نهاراً وتتوقف فيها ليلاً .
وصل عدد المحطات التي تتوفر على هذه الخصوصيات ،والتي تحولت إلى مدن –دول- وفق إشارات بعض المصادر الأدبية - إلى 25 مدينة موزعة على كامل ساحل بلاد الفينيقيين ، من أوغاريت شمالاً حتى عكا جنوباً . وأهمها في شرق الفينيقيين:أرواد وطرابلس وجبيل وبيروت وصيدا وصور وعكا ...كان ولاء وانتماء الساكنة للمدينة التي يقيمون بها ، وليس لـــــــــدولة موحدة مما حدا بكثير من المصادر إلى تسمية الفينيقيين ب"الصيدونيين" تارة وب"الصوريين" تارة أخرى ، وسنخص بالذكر جبيل لشهرة ملوكها ومنهم "أحيرام"،وصور التي سيكون لها امتداد بالشمال الإفريقي من خلال مستوطنة قرطاج.
لمحة تاريخية عن جبيل وصور الفينيقية في بلاد كنعان
تعتبر مدينتا جبيل و صور من أعرق مدن الحضارة الفينيقية في بلاد كنعان و سنحاول تناول تاريخ كل مدينة :
1 - تاريخ مدينة جبيل ( Botrys) ببلاد كنعان :
تقع مدينة "جبيل "على ساحل بلاد الفينيقيين ،عند مصب نهر أدونيس (نهر إبراهيم الحالي) ، ولا تفصلها عن العاصمة بيروت سوى مسافة تقدر بحوالي 45 كلم .اسمها حديث، أما الفينيقيين فقد أطلقوا عليها بلغتهم " بعلت جبال " أي "صاحبة الحدود " أو "جبلة " ( Gubla) ، وسماها المصريون "كبين"( Kepen ) تحريفاً لاسم جبلة ، وحملت عند اليونان اسم "بيبلوس" ( Byblos ) .
تعتبر جبيل من أقدم المدن في التاريخ التي سكنت ، وعرفت بمينائها الهام الذي كانت تصدر منه أخشاب الأرز إلى كثير من الدول ،وبخاصة نحو الحضارة الفرعونية منذ الألف الثاني ق . م ، وخاصة في عهد الأسرة المصرية الفرعونية الثانية عشرة، وكان الأمراء في جبيل يلقبون ب"الأمراء النبلاء" .وتبين قصة النبيل المصري "سنوهي" الذي رافق الملك "سنوسرت الأول" (ثاني ملوك الأسرة 12) تردي العلاقة بين الطرفين المصري –الفينيقي بعدما كانت متينة ومبنية على التعاون عهد ملوك الأسرة السادسة (حوالي 2500-2400ق.م.ولما سمع "سنوهي" بموت مؤسس الأسرة 12 الملك "أمنمحات الأول" هرب نحو الشرق، وأقام بالقرب من مدينة جبيل لعدة سنوات. فيما بعد ، ستضعف العلاقة بين جبيل ومصر، وخاصة خلال غزوات الشعوب المعروفة باسم "شعوب البحر " (حوالي سنة 1200 ق.م) حيث اجتاحوا المدن الفينيقية على الساحل السوري ،ودمروا الكثير منها وكانت مصرقد طردتهم من ساحل .ثم تدهورت علاقة الطرفين المصري والفينيقي عهد الأسرة الفرعونية 21 ،إذ عامل الأمير "زاكر بعل "حاكم جبيل بسوء بعثة الموفد المصري "ون آمون" ( Wen - Amun ) الذي أرسله الملك المصري "حريحور" (حوالي 1090 ق.م ) للحصول على الأخشاب اللازمة للسفينة المقدسة الخاصة ب "الإله آمون/الإله الرسمي لمصر وإله طيبة". فلم تحصل البعثة على الأخشاب المطلوبة بسهولة ، إذ كان عليها دفع قيمتها،وسلمت لها البضاعة فيما بعد عند مغادرتها المدينة.
لقد أظهرت حفريات العالمين الفرنسيين "مونتيه" ( P.Montet ) ، و"دونان" من بعده ( M.Dunanus / حوالي سنة 1926 م . )- فضلا عن ما ذكر- بأن مدينة جبيل تعرضت لحريق مهول في نهاية الألف الثالث ق.م . . وتبقى من أكبر الاكتشافات الأثرية العثور على صخرة عليها بعض أسماء ملوك جبيل الفينيقيين الذين سبقوا الملك "أحيرام" ،ومنهم "شفط بعل" ، و"ايلى بعل "، وترجع هذه الكتابة إلى القرن العاشر ق.م. ونقرأ من النصوص المختصرة على تابوت "أحيرام" ،وعلى بعض المباني و التماثيل نقوشا تساعد على ترتيب الملوك وضبط تاريخ توليهم العرش على النحو التالي :
جدول: ملوك جبيل الفينيقية وتاريخ توليهم العرش
اسم الملك | تاريخ توليه العرش |
أحيرام | حوالي سنة 1000 ق.م. |
إيتوبعل | سنة 980 ق .م. |
إبي بعل | سنة 940 ق.م. |
بيحي بعل | سنة 920 ق.م. |
إيلي بعل | سنة 900 ق. م. |
شيبيت بعل | سنة 880 ق.م. |
2- تاريخ مدينة صور ( Tyr ) ببلاد كنعان :
تعتبر مدينة صور من بين المدن الفينيقية الهامة عبر تاريخ الفينيقيين في بلاد كنعان ،تقع على ساحل بلاد الفينيقيين،وتتكون من حيين متكاملين بني أحدهما على الشاطئ عند مصب نهر القاسمية ، وبني الحي الثاني على جزيرة تبعد عن الشاطئ بحوالي ميل واحد ، وهذه الجزيرة متصلة بالبر بواسطة سد يبلغ طوله حوالي نصف ميل . أنشئت المدينة وفق رواية المؤرخ الإغريقي"هيرودوت" قبل قدومه إليها بألفين وثلاثمائة سنة (زار صور حوالي 450 ق.م ) ، وبذلك تكون قد ظهرت إلى الوجود حوالي سنة 2750 ق.م . أكد له كهنتها بأن معبد ( ملكارت ) إله صور وإله الملاحة والملاحين . بني المعبد في نفس الوقت الذي بنيت فيه المدينة ، ويرى الباحثون أن هذا التاريخ بالرغم من كونه تاريخ تقريبي ،فهو مطابق للحقيقة.
تشير أساطير مدينة صور إلى أن جنسا من" أنصاف الآلهة " (أي آلهة ثانويون) جاء بعد خلق الكون ،وتلاه جنس من" العمالقة "اخترعوا ما أفاد العالم، ومن هؤلاء "أوزيريس" الصياد الأسطوري الذي كان أول من خاطر بركوب البحر فوق جذع شجرة رسا بها على جزيرة من جزر الشاطئ السوري ،وأقام بها عمودين أحدهم للنار والآخر للريح ،ثم قدم القرابين للآلهة.وجذع الشجرة المشار إليه هو حسب دارسي الأساطير "زيتونة إلهة الخصوبة"عشتار"، وكان يتولى حراستها نسر وثعبان ، وقد تم تقديم النسر قربانا للآلهة ،وعلى إثر ذلك تأسست صور.وهناك أسطورة ثانية تقول بأن مدينة صور كانت قد سكنت في أول الأمر من طرف الآلهة الذين سلموها فيما بعد للعمالقة .
أطلق أهل صور على مدينتهم اسم (صر) ( Sr ) ، ويمكن إرجاع أصل الكلمة إلى اللهجات السامية ،و يعني في أغلبها " الصوان" أو "الحجر الحاد "، وهو ما يدل على طبيعة الجزيرة الصخرية التي بنيت عليها المدينة ، في حين أن صور عند الفينيقيين تعنى ( الصخرة ). لقد ورد اسم مدينة صور على هيئة ( صوري ) ( Surri ) في رسائل "تل العمارنة " خلال حكم الفرعون "أخناتون " المنتمي للأسرة 18، وورد أيضاً في الوثائق الأشورية والكلدانية ، وفي أحد نصوص مدينة أوغاريت ، إضافة إلى ذكرها مراراً في أسفار العهد القديم ( التوراة ) والعهد الجديد ( الإنجيل ).
بنيت مدينة صور فوق رأس داخل في البحر تحميه صخرة طولها قرابة ميل وعرضها ثلاثة أرباع الميل . كانت هذه الجزيرة ميناء للمراكب في العاصفة ،وملجأ للسكان زمن الحرب . وكان للمدينة ميناءان مستقلان ،الأول مدخله إلى الجهة الشمالية ،وكانوا يسمونه الميناء الصيداوي ، والثاني في الجهة الجنوبية ويعرف بالميناء المصري. يقول عنها "حزقيال " النبي (عاش خلال القرن 6 ق.م.) " ... الساكنة عند مداخل البحر تاجرة الشعوب إلى جزائر كثيرة "..
امتاز الصوريون بالمهارة في التجارة والملاحة ، وعرفوا بكتمانهم أسماء المحطات التي سلكوها مثلما جاء في وصف رحلتي الأخوين "حانون" و"هملكون " (القرن 5 ق.م.)، واستطاعوا أن يتحكموا في التجارة الدولية لمدة ثلاثة قرون ابتداء من القرن السادس قبل الميلاد .
وكانت فترة ازدهار مدينة صور في فترة حكم ملكها "حيرام" ( 980 - 936 ق.م ) حيث ربط علاقات اقتصادية قوية مع النبي "سليمان "الحكيم ( عليه السلام ) ( 960 - 922 ق.م ) ، فقد أمده بالمهندسين والفنيين والعمال لبناء قصره وبناء أيضا معبد مدينة أورشليم ، كما أنه زوده بأخشاب الأرز المشهورة من جبال لبنان. بالإضافة إلى ذلك ،أعطاه بحارة ماهرين كانوا أول من بدأوا في تأسيس الأسطول البحري العبراني في البحر الأحمر ، وكان الملك يتقاضى في مقابل ذلك ذهباً ومواد غذائية أخرى كالحبوب والزيت .
أقام الملك "أحيرام " عدة مشاريع إصلاحية في مدينة صور نفسها،ومنها ترميم معبد الإله (ملكارت ) وبناء معابد وقصورا جديدة.كما قام بتوسيع أسوار المدينة ،وربط الجزيرة الصغيرة القريبة من جزيرة صور بسور قوي ، وحسن ميناءها التجاري .
تعرضت صور في عهد ملكها "إيتوبعل الأول" إلى اكتساح جيوش الإمبراطورية الآشورية سنة 876 ق.م ، وأبدت مقاومة شديدة في عهد الملك "أشور ناصر بعل " ، أخضعت على إثرها بالقوة،وأرغمت على دفع الجزية حتى في عهد الملك الأشوري "شلمنصر الثالث" (860 -835 ق.م ).ولم ينجح الملك الآشوري "سرجون الثاني" ( حكم حوالي 722 - 705 ق.م ) - الذي أخضع كل المدن الفينيقية الساحلية – أن يسيطر عليها .وستتحالف مع عدة مدن فينيقية للوقوف في وجه المد الآشوري، وخصوصاً في عهد "سنحاريب "وابنه " أسرحدون "(انطلاقا من سنة 681 ق.م ) ،واللذان استطاعا في نهاية الأمر إخضاعها ،مما أرغمها على دفع الجزية ،واستمر الوضع كذلك إلى سقوط دولة الأشوريين سنة 663 ق.م.
خضعت مدينة صور بعد ذلك ، للكلدانيين خلال القرن السادس ق .م . وفي عهد "حيرام الثالث" استبدلت نظام الحكم الملكي،بنظام جمهوري بحيث أصبح حاكمها يلقب ب"الشوفيط" ( Suffète ) وهو النظام الذي سنجده بقرطاج وبمدن أخرى ومنها وليلي بالمغرب. وكانت صور خلال العهد الفارسي تابعة اسميا للفرس ، وذلك بدفع الجزية ، وشاركت بأسطولها - الذي كان يضرب به المثل- إلى جانب الأسطول الفارسي في غزو بلاد اليونان ، إلا أنها خسرت في معركة "سلاميس "( Salamis ) عام 480 ق.م .إحدى أبرز "الحروب الميدية" (498 – 448 ق.م.) التي حفزت المؤرخ الإغريقي "هيرودوت " أن يكتب عنها مؤلفه "التواريخ" ،لأنه آمن بأن أعمال البشر يطويها النسيان ما لم تسجل .
ظلت مدينة صور مدينة بحرية من الدرجة الأولى حتى قدوم "الإسكندر المقدوني أو الأكبر" عام ( 356 - 323 ق .م ) الذي شن حملاته على المدن الفينيقية عام 332 ق.م . وقد خضعت له جميعها ما عداها،إذ أوصدت أبواب أسوارها مثلما فعلت مع الآشوريين والفرس، واكتفت بتقديم الهدايا ،ولكنه رفض .عمد الإسكندر إلى حمل أنقاض المعابد والأعمدة التي هدمها لبناء جسر يربط الجزيرة باليابسة ،ولكن سكان المدينة فطنوا لذلك، فأرسلوا سفناً مشتعلة أضرمت النار في المواد الخشبية والأبراج و آلات الحصار مما اضطر الإسكندر لاستبدال الخطة بحيث جمع حوالي 224 مركباً حربياً من سفنه وسفن قبرص وجزر البحر الإيجي وشكل بها جسرا ، وبذلك استولى على المدينة ،وهدم أسوارها وقتل الكثير من سكانها بعد حصار دام حوالي سبعة أشهر .
كما بيناه، تتميز مدينة صور بعدة خصوصيات منها :موقعها داخل البحر ومناعة أسوارها التي جعلتها في مأمن من كل الهجمات البرية ، وكذلك قوة أسطولها التجاري والحربي والذي أكسبها غنى مادي وقوة حربية كبيرة ، وستشكل العديد من المستعمرات في شمال أفريقيا كلبدة وأوتيكة وقرطاج وغيرهم،وبذلك ستصبح قرطاج وريثتها بالبحر الأبيض المتوسط وبالأطلسي لعدة قرون من مرحلة أوجها إلى هزيمتها على يد الرومان سنة 146 ق.م. كما سنرى.