قامت إمارة الأدارسة في المغرب الأقصى بعد معركة فخ التي أبادت فيها الدولة العباسية عددا كبيرا من أهل البيت سنة 169 /772م .وغادر إدريس بن عبد الله الحسني الحجاز متوجها صوب المغرب صحبه مولاه راشد بن منصت البربري. وبعد تفاوض مع زعيم أوربة إسحق بن عبد الحميد تم الاتفاق على تأسيس إمارة تبنتها القبائل الأوربية الزناتية ودعمنها قبائل غمارة. في وقت كانت قبائل كبيرة أخرى قد انتظمت في كيانات سياسية محلية، مثل نفزة التي أسست إمارة نكور، ومصمودة التي كانت وراء تأسيس إمارة برغواطة، وقبيلة مكناسة التي أسست إمارة سجلماسة.
-البوادر الأولى لقيام امارة الأدارسة
استغرق التفاوض بين الإمام إدريس وبين زعماء أوربة، ووضع الترتيبات الإعلان على تأسيس الإمارة التي اعتبرها بعض المؤرخين دولة ستة أشهر، وأسفر عن تبني زعماء أوربة لمشروع إدريس السياسي، فبايعته قبائل أوربة يوم الجمعة 4 رمضان 172 ه/788م على القيام بأمرهم وصلواتهم وغزوهم وأحكامهم. وعلى إثر ذلك بايعته قبائل صنهاجة البرنسية، ومكناسة وتسول وملوية، وزواغة وجراوة فضلا عن غمارة. وباجتماع القبائل المذكورة اتخذت الإمارة الناشئة مدينة وليلي قاعدة لها، فسارع المولى إدريس إلى إنفاذ أولى حملاته ضد إمارة برغواطة فتمكنت الإمارة الأدريسية من السيطرة على بلاد تامسنا ودخول مدينة شالة. ثم توجهت حملة ثانية إلى جبال الأطلس المتوسط فوصلت إلى تادلة، بعدها تمت السيطرة صلحا على مدينة تلمسان، التي أمر ببناء "مسجد تلمسان وأتقنه وصنع فيه منبرا".
كانت نجاحات إدريس وأخبار التفاف القبائل المغربية حوله تصل إلى بغداد عاصمة الدولة العباسية فتبعث القلق في نفوسهم من إمكانية أن تصبح هذه الإمارة مصدر خطر فعلي، وهو التخوف الذي بثه الوزير العباسي يحيى البرمكي في نفس خليفته هارون الرشيد، حينما خذره بأن إدريس بن عبد الله قد "فتح مدينة تلمسان وهي باب إفريقية، ومن ملك الباب يوشك أن يدخل الدار". وأمام تعذر بعث جیش الغزو الإمارة الإدريسية فضل العباسيون اللجوء إلى أسلوب الاغتيال فأرسلوا رجلا يدعی سلیمان ابن جرير الشماخ، وكان داهية، استطاع أن يقنع إدريس بأنه هرب من اضطهاد دولة بني العباس بسبب ولائه لآل البيت، فاطمأن إليه إدريس، لذلك استغل تلك الثقة فتمكن من قتل إدريس بالسم سنة 177 ه/793 م، ثم فر هاربا إلى بغداد.
- الأمير إدريس الثاني بين مرحلة الوصاية والبيعة :
عندما توفي الإمام إدريس الأول ترك زوجته كنزة الأوربية حاملا، فاتفق زعماء الإمارة على انتظار أن تضع مولودها، وفي غضون ذلك تم الاتفاق على إسناد مهمة الوصاية على الإمارة لراشد بن منصت الأوربي الذي عرف لذلك باسم "راشد أمير الغرب"،وسهر في نفس الوقت على تربية الأمير إدريس الثلني وتعليمه.
ويبدو أن العباسيين ظلوا يتوجسون من الإمارة الإدريسية فأوكلوا أمر محاربتها لحلفائهم الأغالبة بإفريقية، وقد تمكن إبراهيم بن الأغلب من اختراق صفوف زعماء أوربة فتمكن عن طريق أحدهم من اغتيال راشد، في محاولة ثانية لزعزعة أركان الإمارة الإدريسية، لكن مشايخ القبائل سارعوا إلى بيعة إدريس الأصغر بولیلی سنة 188 هجرية (803م) وعمره إحدى عشرة سنة ونيف. وقد أدى غیاب راشد عن المشهد السياسي إلى انفتاح باب التنافس بين أشياخ القبائل للاستفراد بالقرار والتأثير على الأمير الصغير، بينما ظل الأغلبية يبحثون عن شخصية نافذة تمكنهم من تنفيذ مخططهم في القضاء على الإمارة الإدريسية فتمكنوا من استمالة رجل من المقربين من إدريس هو معلول بن عبد الواحد المطغري، وكان ذا مكانة في قومه، لكن أمره کشف وقتل، ولم ييأس إبراهيم بن الأغلب حتى تمكن من إغراء زعيم أوربة الشهير وأحد مؤسسي الإمارة إسحاق بن عبد الحميد الأوربي، فتم کشف موالاته لابن الأعلب وقتله سنة 192 م /808م.
- بناء مدينة فاس :
تختلف المصادر في تاريخ بناء مدينة فاس بين سنة 174 ه/790م في عهد إدريس الأول وبين 192ه/808 في عهد إدريس الثاني. والتاريخ الثاني هو الأرجح. ويأتي بناؤها في سياق المشاكل الناتجة عن كشف ولاء إسحاق بن عبد الحميد الأوربي للعباسيين وقتله، لذلك تقرر الابتعاد عن ولیلی وعن قبيلة أوربة، خاصة وأن الدولة الإدريسية بدأت تستقبل "وفود العرب من إفريقية والأندلس" قاصدين الإمارة التي راجت أخبار عن ازدهارها وصلاح أمرها في الأقطار المختلفة، وكان بين المهاجرين نخب عالمة عين إدريس بعضهم في الوزارة والكتابة والقضاء، وبذلك بدا فك ارتباط الدولة بمشايخ أوربة ومطغرة، ثم ربط الصلات مع قبيلة نفزة بمصاهرته لإحدى الأسر النفزية .
ويبدو أن الخوف على المدينة كان باعثا على إحاطتها بالأسوار والأبواب، كما أنشأ ما المسجد المعروف بجامع الأشياخ". ثم تفرغ في السنة الموالية لبناء مدينته المعروفة بالعالية في العدوة المقابلة للوادي فأنشأ بها "جامع الشرفاء " ودار الإمارة والقيسارية والأسواق وأدارها بالأسوار والأبواب ونقل إليها دار السكة، وأمر الناس بالتوسع في البنيان بداخلها، ولما فرغ من الأشغال، انتقل إليها من وليلي "محلته واستوطنها واتخذها دار ملکه" فأصبحت حاضرة.
وفي سنة 202 ه/817م وفد الربضيون الأندلسيين على المغرب فتتوزعوا في مدنه ومناطقه، وقصدت مجموعة كبيرة منهم مدينة فاس فاستوطنتها، ومنذ ذلك التاريخ عرفت المنطقة التي استوطنوها بعدوة الأندلسيين، بينما نسبت مدينة العالية للوافدين عليها من القيروان فعرفت بعدوة القرويين. وقصدها أيضا جماعات من البربر والعرب واليهود من التجار والحرفيين وأهل العلم، فضلا عن "جماعة من الفرس من أرض العراق". وبذلك، أصبحت فاس على تنوع سكانها واختلاف طبقاتهم "مدينتان مقترنتان مسورتان بينهما نهر وأرحاء وقناطر".
و بعد استقرار الأوضاع وعودة التماسك إلى الإمارة أخذ إدريس في توجيه الحملات العسكرية إلى بلاد تامسنا لغزو البرغواطيين والسوس وتلمسان، لتوسيع نفوذ الإمارة واستمالة القبائل المخالفة. وقد ساهم اتساع الإمارة في إنعاش اقتصادها ومد مسالك التجارة في الاتجاهات المختلفة فارتبطت فاس تحاريا بتلمسان ونکور وسجلماسة، كما أمنت الطرق إلى شالة وأغمات ونفيس في اتجاه درعة، وامتدت المواصلات عبر البصرة نحو طنجة وسبئة، وغدت فاس بمثابة القطب الذي تجتمع عنده المسالك والطرق من كل أنحاء المغرب.
بعد وفاة إدريس الثاني، قام خلفه الأمير محمد بن إدريس (213 - 221 ه/828 - 835 م) بتوجيه من جدته كنزة بإشراك إخوته في الحكم، فعين ثمانية منهم ولاة على أقاليم الدولة. وقد أسهم هذا الإجراء في ترسيخ مكانة الشرفاء الأدارسة في أوساط القبائل المغربية المختلفة. كما ساهم هذا التدبير في استحداث مدن جديدة وإحياء رسوم المدن المندثرة بمختلف الولايات، نذكر منها مدينة البصرة، المعروفة ببصرة الكتان. كما أسست "مدينة تامالت وهي مدينة كبيرة أسسها عبد الله بن إدريس العلوي". ومن المعلوم أن مدينة "أصيلة قدمها القاسم بن إدريس فملكها وبنى سورها وقصرها وبها قبره" .
وهو ذات الاهتمام الذي نالته مدينة "تشمس وكان إدريس بن القاسم بن إبراهيم العلوي قد أحيا رسمها". كما انتعشت جملة من التجمعات الحضرية مثل نبطاوين وقصر مصمودة وتيكساس وترغة و آزمور وتادلة، فضلا عن المدن الكبرى مثل سبتة وطنجة وشالة وأغمات و نفیس وإيجلي.
ومن النتائج السلبية لهذا الإجراء ثورة عيسى بن إدريس الثاني ببلاد تامسنا وامتناعه عن المساهمة في خزينة الإمارة، لكن الأمير محمد بن إدريس واجه هذا العصيان بإصرار حتى نتمكن من القضاء عليه بواسطة أخيه عمر والي بلاد الريف.
بويع أكبر أبناء الأمير محمد، وهو على بن محمد (221 - 234ه/835 - 848م) بالإمامة وتميز عهده بالاستقرار في عهده وشيوع الأمن. وقد استمر الرخاء بعده في عهد أخيه يحي بن محمد (234 - 245م/848 - 859م) الذي امتد سلطانه وعظمت دولته، وبلغ العمران بفاس في عهده الغاية لكثرة ما أنشئ بها من حمامات وفنادق للتجار، ودور تأنق أصحابها في بنائها، كما انتشرت بظاهرها الأرباض السكني العامة من الحرفيين والباعة. وفي عهده تم بناء جامع القرويين الذي أنشئ سنة 245 هجرية (859م) ليواكب توسع عمران المدينة ويشهد على فضتها.
بداية التدهور :
بعد وفاة يحي الأول لم يتمكن خلفه يحيي الثاني (245ه/859م) أن يحافظ على استقرار الدولة بتهاونه في تدبير أمور الدولة، فثارت عليه العامة بفاس، مما أدى إلى بداية تفكك الإمارة إلى مناطق نفوذ محلية "فملك إخوته أنفسهم واستمالوا القبائل فقدمهم البربر على أنفسهم تقديمها كليا".
أما حاضرة فاس ونواحيها فأصبحت مجرد منطقة نفوذ مماثلة، تعاقب على حكمها أمراء ضعاف لم يستطع أي منهم إعادة توحيد الإمارة، باستثناء محاولة الإمام يحيي بن إدريس بن عمر الذي عمل على استدراك الأمر بالعدل والحزم في الحكم، غير أن هجوم الفاطميين على المغرب أفشل تلك المحاولة عندما تمكنوا من احتلال فاس سنة 309 ه/921 م. ثم استطاعت قبائل مكناسة بزعامة موسی بن أبي العافية من تكوين كیان قبلی بسط سيطرته على البلاد بدعم من الفاطميين ثارة ومن الأندلسيين تارة أخرى، فأدى زجف موسی بن أبي العافية إلى القضاء على الوجود الإدريسي بفاس يموت آخر أمراء الدولة الحسن الحجام سنة 311ه/923م. وعلى إثر ذلك أجلى الزعيم المكناسي "بني إدريس أجمعين عن مواضعهم وصاروا في قلعة حجر النسر" بالمنطقة الجبلية بالشمال. وفي عدد من مدن الشمال مثل سوق تامة وقلعة بن خروب وأفتس ورهونة وتيطاوين وقصر مصمودة وأصيلا حاول الأدارسة إحياء دولتهم التي ظلت تقاوم التقلبات السياسية إلى أن تمكنت الحجابة العامرية من القضاء على ما تبقى من إماراقم المحلية سنة 375ه/985م وسيطرتها على مدينة فاس.
وأسهم الفاطميون وحلفاؤهم بنصيب وافر في إضعاف الدولة الإدريسية بحملامم المتكررة عليها، وهم الذين "هدموا مدينة البصرة ومحوا رسمها بعد طول مدتها وكثرة عمارها فصارت كأن لم تغن بالأمس".
أحمد بن خالد الناصري- الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى الجزء الأول
احمد عزاوي - مختصر في تاريخ الغرب الإسلامي , الجزء الأول , الطبعة الثالثة , rabat net maroc , الرباط , 2012.
محاضرات الأستاذ محمد المغراوي - كلية الأداب و العلوم الانسانية جامعة محمد الخامس الرباط.