أسفرت عن ثورة البربر التي قادها الأمازيغ الذين اتخدوا مذهب الخوارج الصفرية مذهب لهم بالمغرب الأقصى في القرن الثاني الهجري، قيام مجموعة من الإمارات الأمازيغية، من بينها إمارة برغواطة الذين تمكنوا من السيطرة والصمود والحفاظ على وجودهم أكثر من أربعة قرون في منطقة تامسنا. وقد عمرت هذه الإمارة أربعة قرون جعلها هذا أطول من امارة الأدارسة الذين عاصروهم .
تأسيس الامارة
تأسست إمارة برغواطة في المغرب على يد صالح بن طريف الذي ينسب نفسه لشمعون بن يعقوب إسحاق بن إبراهيم (122 - 125 ه/739 - 742م). كان صالح قد انخرط في ثورة البربر حيث كان أبوه طريف من أصحاب ميسرة وقواده. ويرتبط قيام الإمارة البرغواطية بالانشقاق الذي حدث " قتل میسرة وافترق أصحابه، فاحتل طريف ببلد تامسنا فقدمه الأمازيغ على أنفسهم وولي أمرهم".
كان صالح بن طريف (125 - 172 ه/742 - 788م) قد اشتهر بالبرباطي، لأنه نشأ بقرية برباط بكورة شذونة بالأندلس، ونال قسطا وافرا من العلم بعدما حفظ القرآن وأتقن الخط العربي، ثم رحل في طلب العلم إلى الشام حيث تلقى مبادئ القدرية والاعتزال على عبيد الله القدري، وأخذ علم الكلام ومناهج الجدل في مجالس غيلان الدمشقي. وأثناء مقامه بالعراق مال إلى تعلم علم الطلسمات والنجوم والكواكب والتقاويم والمواليد، وانكب على علوم القدامی کالحكمة والطبيعة، وتعلم اللغة السريانية فضلا عن اللسان العبراني والأعجمي. كما أحكم لسان قومه الأمازيغي باختلاف لهجاته. وقد دفعه تبحره في العلوم إلى التخلي عن المذهب الصفري وانتهى به الأمر إلى اختراع مذهب جديد متميز عن كافة المذاهب الإسلامية، يجمع بين مبادئ الصفرية والقدرية والاعتزال والتشيع والوثنية الأمازيغية، كما عمد إلى استنباط الأحكام وفق مناهج وضعها فشرع لقومه شرائع مخالف لشرائع الإسلام، وزعم أنه نبي فألف كتابا عارض به القرآن الكريم كان يحتوي على ثمانين سورة، لذلك لم تتردد المصادر القديمة مشرقية ومغربية في اتهام البرغواطيين بالانسلاخ عن الإسلام وتشبيههم بالمجوس والزنادقة. وأحيطت وفاة صالح ابن طريف سنة 172 ه بهالة من الغموض فأشيع أنه دخل في غيبة وأنه لن يعود للظهور إلا في دولة السابع من ملوك البرغواطيين "ليملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا".
ظلت النحلة البرغواطية سرية خلال أكثر من أربعين سنة التي قضاها صالح بن طريف على رأس الإمارة البرغواطية، وظل يظهر الانتساب إلى المذهب الصفري، وقبل وفاته عهد بأسرار نحلته الجديدة "إلى ابنه إلياس وأمره أن لا يظهر ذلك إلا إذا قوي وأمن".
برغواطة العظيمة وجهاد الأدارسة
عندما تمكن المولى إدريس الأكبر من تأسيس إمارة الأدارسة صارت إمارة برغواطة هدفا الهجوماته، فنجحت عدة حملات عسكرية في السيطرة على مدينة شالة ومعظم بلاد تامسنا حتى كادت إمارة بني صالح أن تسقط، وكانت قد انتقلت حديثا إلى حكم ثاني أمرائها. كما اجتهد المولى إدريس الثاني في محاربة البرغواطيين حتى اشتهر بكثرة "غزواته للخوارج الصفرية من البربر"، ونجح في بسط سيطرته على معظم أرجاء الإمارة التي تراجعت إلى الجنوب. وعندما ولي الأمير محمد بن إدريس الثاني "ولى أخاه عیسی علی شالة وسلا وأزمور وتامسنا وما والاها"، وفي هذه الأثناء كان إلياس بن صالح (172 - 788 / 222 - 836م) لا يزال "يظهر ديانة الإسلام ويسر الذي عهد إليه أبوه خوفا وتقية". هكذا ظلت الصفرية بمثابة المذهب الرسمي للإمارة بينما بقي المذهب اليرغواطي في طي الكتمان يتناقله المقربون من أميرهم فقط. وتمكن إلياس بن صالح من استرجاع نفوذه في أوساط قبائل مصمودة جنوبا "فدخل في طاعته خلق كثير وعظم أمره"، وأصبحت المواجهة مع الأدراسة في شكل كر وفر.
يبدو أن رابع الأمراء يونس بن إلياس (222 - 266م/836 - 879م) قد شعر بأن الظروف أصبحت مناسبة لإعلان المذهب اليرغواطي وإشهار مبادئه في بلاد تامسنا فدعی كافة اهل المغرب للدخول في طاعته، مستفيدا من اختلال دولة الأدارسة. ولتحقيق ذلك، خاض يونس حربا مذهبية لا هوادة فيها ضد المخالفين، لا سيما ضد الأدراسة.
بعد وفاة يونس بن إلياس، انتقل حكم الإمارة إلى فرع آخر من أحفاد صالح بن طريف هو فرع "أبي غفير محمد بن معاد بن اليسع بن صالح بن طريف" (271 - 299ھ/884 - 911م) الذي عمل على توسيع رقعة الإمارة في اتجاه جبل درن وضم القسم الأوفر من مواطن قبائل البرانس ومطغرة وتطلع إلى أراضي مكناسة وزواغة وجراوة. وتعتبر موقعة تيمغسن ومعركة وادي بحت من المواقع المشهودة التي خاضها البرغواطيون ضد القبائل لإخضاعها. أما الأمير أبو الأنصار عبد الله بن محمد (299 - 341ھ/911-952م) فقد اتسم بالدهاء في مواجهة القبائل فكان "يجمع جنده وحشمه في كل عام ويظهر أنه يغزو من حوله فتهاديه القبائل وتستألفه، فإذا استوعب هداياهم وألطافهم فرق أصحابه وسكنت حركته". بلغت إمارة بني طريف خلال هذه الفترة الممتدة من سنة 271 إلى سنة 368م (884 - 978م) إلى وضعية مريحة تميزت بالاستقرار والرخاء، فكان يصل إليهم أهل أغمات والسوس أيضا بالتجارة وكذلك قوم من أهل سجلماسة".
وتميزت الأوضاع الاجتماعية أيضا بالاستقرار فأشارت المصادر إلى ما كانت عليه "برغواطة من أمانة وبذل للطعام وتجنب الكبائر من الحرام والمحظورات والآثام"، وكانت عقوباتهم رادعة إذ جرت أحكامهم بقتل السارق بالإقرار والبيئة، ويرجم في الزنا عندهم، وينفي الكاذب". وما میز آواخر هذه المرحلة ميل البرغواطيين إلى الدخول في علاقات سلمية مع الخلافة الأموية بالأندلس التي استقبلت في عهد الحكم المستنصر سفيرهم "أبا صالح زمور بن موسی این هشام بن وارديزن البرغواطي" صاحب الصلاة بمسجد شالة الجامع.
بوادر الانهيار
وفي غضون تعرض المغرب لهجوم الفاطميين ودخولهم إلى مدينة فاس تعرضت الإمارة البرغواطية للخطر الفاطمي فهوجمت أطرافها بواسطة حلفائهم الزيريين الذين أشعلوا حربا مستعرة استمرت طوال خمس سنوات. وعندما تغلب الحاجب المنصور بن أبي عامر على أمر الأندلس وتدخل في المغرب أرسل القائد واضح الفتى على رأس قوة أندلسية لمحاربة برغواطة "فعظم الأثر فيهم بالقتل والسبي".
ومن جانبها اخترقت قبائل بني يفرن الزناتية، التي أسست إمارة بسلا، مجال برغواطة فسيطرت على الممرات الداخلية إلى تادلا. كما نجحت قبائل مغراوة في السيطرة على أغمات والسوس. وبذلك انكمشت الرقعة البرغواطة في نطاق ضيق بين نهر أسمير وماسئات والبحر المحيط، تطوقها قبائل زناتة من من الشمال والشرق. وانطلاقا من شالة التي حولها بنو يفرن إلى رباط لجهاد برغواطة كانت حملات المتطوعين تتوالى ضدها، إلى أن سقط آخر أمرائهم حفص بن عبد الله على أيدي المرابطين سنة 452 ه/1060م) وبذلك انقرضت دولتهم وتحولت القبائل التي كانت خاضعة لهم إلى المذهب السني المالكي ولم يعد لنحلتهم ذكر. وفي حروبهم قتل إمام المرابطين عبد الله بن ياسين الجزولي في منطقة كريفلة قرب مدينة الرباط سنة 451 ه
احمد بن خالد الناصري- الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى الجزء الأول
احمد عزاوي - مختصر في تاريخ الغرب الإسلامي , الجزء الأول , الطبعة الثالثة , rabat net maroc , الرباط , 2012.
محاضرات الأستاذ محمد المغراوي - كلية الأداب و العلوم الانسانية جامعة محمد الخامس الرباط.