لم يهتم المؤرخون القدماء بشؤون الممالك الامازيغية بشمال افريقيا ، الا في اطار علاقتها بالصراع الروماني القرطاجي. لذلك فجل المصادر التاريخية التي تناولت الاحداث السياسية لهذه الممالك كنوميديا تبقى اجنبية اغريقية او لاتينية حيث يعبر معظمها عن السياسة التوسعية لروما وقد كان ظهور الممالك الامازيغية بشمال افريقيا اثناء الصراع الروماني القرطاجي ابتداء من القرن 3 ق.م.، مثل مملكة نوميديا الغربية بقرطاج (المملكة الماسيلية) التي ظهر اسمها خلال الحرب البونية الاولى وتقدم لنا المصادر اليونانية و الرومانية تسلسل ملوكها و اوردت اسماءهم منذ القرن الرابع ق.م، ومن أبرزهم ماسينيسا و يوغرطة.
ماسينيسا من التبعية القرطاجية الى الولاء الروماني :
لم يكن ماسينيسا ابن اكليد كايا راضيا عن سير الامور في مملكته عقب وفاة والده. غير ان وجوده مع الجيش القرطاجي على راس الفرسان النوميديين باسبانيا لم يترك له الفرصة في تصحيح الاوضاع خصوصا و انه تربى في قرطاجة و تدرب عسكريا تحت قيادة القائد القرطاجي حسدروبعل والد خطيبته صفونة بعل sophonibé ، و لكن في حيث تلك الاثناء كانت سياسة قرطاج تسعى الى التقرب من العاهل النوميدي سيافكس فقد انتهى هذا التقارب الى زواج صفونة بعل بسيفاكس. و لما علم ماسينيسا بالخبر تخلى عن القرطاجيين فغادر اسبانيا و لجأ الى صديقه الملك " باكا" ملك موريطانيا الغربية (المغرب الحالي) الذي ساعده على الوصول الى اراضيه. و نتج عن تطور الاوضاع بمملكة نوميديا القطيعة بين مملكته و قرطاج ، فزحف سيفاكس بايعاز من القرطاجيين على ماسينيسا الذي انهزم و اضطر الى الفرار و اللجوء عند الكارامانتيين الذين يسكنون في المناطق الداخلية من الصحراء.
و في عام 204 ق.م نزل القائد الروماني سيبيو بافريقيا (تونس) فعاد ماسينيسا من عند الكارامنتيين مؤازرا بفرسان ليقدم الولاء للرومان، و لم يمد ماسينيسا الرومان بالفرسان و المقاتلين فحسب بل امدهم بالادلاء بالاماكن الخفية لمنطقة شمال افريقيا، هذا في الوقت الذي ظل فيه سيفاكس مخلصا للقرطاجيين و قد نشبت المعركة الحاسمة التي قررت مصير المملكة النوميدية في ابريل 203 ق.م و هي المعروفة لدى المؤرخين الرومان باسم معركة السهول الكبرى بافريقيا و حليفهم سيفاكس و انتصر الرومان و حليفهم الجديد ماسينيسا،و تختلف الروايات في سرد الكيفية التي وقع بها سيفاكس في اسر الرومان.
و قد استطاع ماسينيسا دخول عاصمة سيفاكس و تزوج صفونة بعل لكن هذا الزواج لم يرق القائد الروماني سيبيو الذي خشي ان يقع ماسينيسا تحت تاثير عروسه القرطاجية و يعود الى جانب القرطاجيين فأصر على ابطال هذا الزواج و تسليم الاميرة للرومان. و كان طلب سيبيو محرجا لماسينيسا لما فيه من تحقير لشأنه الا ان السياسة فرضت عليه المضي مع الرومان الى النهاية. فكان الحل ان بعث ماسينيسا كأسا من السم الى الاميرة التي رضيت بنصيبها عوض ان تسقط اسيرة في يد الرومان .
تعرض مشروع انشاء ماسينيسا لمملكته لمعارضة شديدة قام بها بعض زعماء القبائل الاقليات شرقا و غربا. و استمر ماسينيسا في الحكم الى سنة 148 ق.م حيث وافته المنية لتخرج روما مرة اخرى عن صمتها و تعلن ان الاكليد (الشيخ) اوصى بحكم المملكة و شؤونها الى القائد "سيبيون" الذي عليه ان يتولى تدبير شؤون المملكة بعد وفاة ملكها . فتم تعيين ماسيسبا خلفا لماسينسا . و لم تكن روما تخاف هذا الملك الذي كان هادئ الطبع يحب العلم و الفلسفة، و يهوى جمع المال و التباهي بعاصمته الى ان توفي سنة 118 ق.م بعد ان اوصى بولاية العهد لابنه اذربعل و هيبسبال و معهما يوغرطة ابن عمهما .
يوغرطة و حكم المملكة النوميدية :
تزخر المصادر اللاتينية بذكر يوغرطة ملك نوميديا، حتى ان المؤرخ سالوست أفرد له مؤلفا خاصا تناول فيه بالتفصيل تاريخ يوغرطة و صراعاته مع الرومان سواء شمال افريقيا او بروما . و يتضح من قراءة سالوست ان يوغرطة لم يكن يحمل لقب الامارة لان امه كانت جارية ، بيد انه كان يتحلى بجملة من الفضائل و المزايا كالجمال الخلقي و الاخلاقي ، الامر الذي جعل عمه الملك ماسيسبا ملك المملكة النوميدية يهابه، فبعثه على رأس تجريدة من الجنود النوميديين الى اسبانيا لمؤازرة الرومان عسى ان يموت في الحرب و لكن بطولة الامير الشاب اطلقت ألسنة الرومان بالثناء عليه و لما انتهت الحرب أعاده الرومان الى عمه معززا مكرما و منوها به فلم يجد الملك ماسيسبا بدا من تبني يوغرطة و إشراكه في ولاية العهد .
و لم تلبث الفجوة ان وقعت بين اولياء العهد الثلاثة من ابناء ماسيسبا و يوغرطة . فنجح يوغرطة في اغتيال هيمبسبال بينما فر اذربعل الى روما و بعد جدل طويل بمجلس الشيوخ استعملت فيه الرشوة و انواع التدليس قرر مجلس الشيوخ تقسيم المملكة النوميدية الى مملكتين كان من نصيب اذربعل القسم الشرقي بينما تولى يوغرطة حكم القسم الغربي و تظاهر يوغرطة في بادئ الامر بالموافقة على هذا القرار لكنه سرعان ما عاود الهجوم على القسم الشرقي و تمكن من هزم اذربعل الذي لم يكن له الا الاحتماء بالتجار الرومان في مدينة سرتة (ليبيا) فقام بمحاصرة المدينة حتى استسلمت في النهاية . و يروي سالوست كيف ان يوغرطة اقدم تحت نشوة النصر على ذبح آذروبعل و التجار الرومان .
البضاوية بلكامل، محاضرات حول تاريخ الحضارات القديمة( لفائدة طلبة الإجازة والماستر والدكتوراه ) ، منذ 1988.
